المسألة الثامنة عشرة
( هل يجب إحضار الخصم إلى مجلس الحكم ؟ )
قال المحقق قدّس سرّه: « إذا التمس الخصم إحضار خصمه مجلس الحكم أحضره إذا كان حاضراً »(1).
أقول: ظاهر « أحضره » هو الوجوب، وفي ( القواعد )(2): إذا استعدى رجل على رجل إلى الحاكم ، لزمه أن يعديه ويستدعي خصمه إن كان حاضراً، سواء حرّر المدعي دعواه أو لا. قال في ( الجواهر )(3): بلا خلاف أجده فيه، بل في ( المسالك )(4) نسبته إلى علمائنا وأكثر العامة ، وكذا عن ظاهر ( المبسوط )(5) الإجماع عليه.
فإن كان إجماع على وجوب الإحضار فهو، وإلاّ ففي ما ذكروه من تعلّق حق الدعوى به ، نظر واضح، لأن الحاكم كما يحتمل صدق المدّعي في هذه الدعوى يحتمل كذبه وبطلان دعواه أيضاً، وحيث لم يتبيّن للحاكم بعد صدق الدعوى ووجود الحق، كيف يجب عليه إحضار الخصم ؟
وكذا الكلام في قولهم: إن مقتضى منصب الحاكم إحضار الخصم، فإن لازم منصب الحاكم سماع الدعوى والقيام بجميع مقدّمات رفع الخصومة، ولكن لا توقف لذلك على إحضار الخصم، بل له النظر في القضية بحسب الموازين الشرعيّة ثم الحكم على الخصم حكماً غيابياً.
فظهر سقوط كلا الوجهين، فالعمدة هو الإجماع إن تم.
قال في ( الجواهر )(6) : « لكن الإنصاف أنه لا يخفى عليك ما في دعوى الإجماع في أمثال هذه المسائل، على أن المحكي عن الفاضل في المختلف عدم وجوب إحضار الغائب بعد تحرير الدعوى… » وعليه، فلا يجب الإحضار ويتعيّن الحكم الغيابي، والغائب على حجته.
وبناء على الوجوب، فلا فرق بين الأشخاص المحترمين وغيرهم:
قال في ( كشف اللثام )(7): سواء كان من أهل الصيانات والمروات أو لا .. قال في المبسوط(8): « لأن علياً عليه السلام حضر مع يهودي عند شريح … » وهذا يعني أن جميع المسلمين في الحقوق والأحكام على حدّ سواء، ولا فضل لأحد منهم على أحد فيها(9).
ولا فرق في ذلك بين تحرير المدّعي دعواه وعدم تحريره لها:
قال المحقق: « سواء حرّر المدّعي دعواه أم لم يحرّرها »(10).
قال: « أما لو كان غائباً لم يدعه الحاكم حتى يحرّر دعواه، والفرق لزوم المشقة في الثاني وعدمها في الأوّل ».
أقول: هذا المقدار من المشقة لا يرفع وجوب الإحضار على الحاكم أو وجوب الحضور على المدّعى عليه، وإلا لانتفت الفائدة من نصب الحاكم والرجوع إليه، وهي فصل الخصومة ورفع النزاع… فلا وجه لهذا التفصيل، لكن تقدّم التأمل في أصل وجوب الإحضار، فعلى الحاكم أن يحكم في القضية بحسب الموازين، ثم الغائب على حجته.
قال: « هذا إذا كان في بعض مواضع ولايته وليس له هناك خليفة يحكم ».
أقول: أي وإلاّ سمع بيّنته إن كانت ، وكتب بالأمر إلى خليفته.
قال: « وإن كان في غير ولايته أثبت الحكم عليه بالحجة وإن كان غائباً ».
أقول: وحيث يكون غائباً يكون على حجّته، فإن حضر وأثبت بطلان دعوى المدعي سقطت الدعوى ، كما سيجئ في محلّه إن شاء الله تعالى.
وحيث يجب على الحاكم إحضار الخصم، فعلى من تكون مؤنة الإحضار ؟ هل على الحاكم أو على المدّعي أو على المدّعى عليه ؟ في المرّة الاُولى المؤنة على المدعي، لأنه الملتمس للإرسال خلف خصمه فعليه المؤنة ، لأن عمل الرسول محترم ولم يقصد المجان، إلاّ أن يقال: لما وجب الحكم على الحاكم فقد وجب عليه دفع مؤنة إحضار المدّعى عليه، لأنه مقدمة للواجب، فيكون نظير شراء الماء للوضوء، ولكن الصحيح أن الواجب على الحاكم هو أصل الحكم.
ثم، إذا أرسل إليه وأبلغه الرسول إحضار الحاكم إيّاه، فإن أجاب فهو، وإلا فيرسل إليه أحد عمّاله للمرّة الثانية، فإن لم يجب أجبر على الحضور، فعلى من تكون المؤنة فيما عدا المرّة الاُولى ؟ قال الشهيد الثاني(11): فيه وجهان، من أن الملتمس هو المدعي فتكون المؤنة عليه، ومن أن الموجب لهذه المؤنة هو الخصم لاستنكافه عن الحضور فعليه المؤنة.
أقول: مقتضى القاعدة الأوّلية توجّه المؤنة إلى الملتمس، وأمّا توجهها إلى الخصم الممتنع، فيتوقف على كونه السبب الأقوى في لزوم المؤنة والضرر، والظاهر أن المدعي هنا هو السبب للضرر اختياراً، وليس امتناع الخصم عن الحضور أقوى في السببية للضرر.
وفي ( الجواهر )(12): لا يمكن مطالبة المدعي بالضرر، لأنه لاجعالة ولا إجارة ، وأما الخصم فلا وجه لمطالبته، قال: بل في المرّة الأولى كذلك، لا يجب على المدعي دفع المؤنة.
وفيه: أنا قد ذكرنا سابقا: أن عمل المسلم محترم، والمفروض عدم إتيانه بالعمل بقصد المجّان، فحيث كان الملتمس هو المدعي فعليه دفع المؤنة.
وأما أن يصبر الحاكم حتى آخر الدعوى فيأخذ المؤنة كلّها من المحكوم عليه ، فاستحسان عقلي لا دليل عليه.
قال المحقق: « ولو ادّعى على امرأة ، فإن كانت برزة(13) فهي كالرجل، وإن كانت مخدّرة ، بعث إليها من يثق به في الحكم بينها وبين غريمها ».
أقول: وجه هذا كلّه واضح لا يخفى.
(1) شرائع الإسلام 4 : 78.
(2) قواعد الأحكام 3 : 434.
(3) جواهر الكلام 40 : 134.
(4) مسالك الأفهام 13 : 423.
(5) المبسوط في فقه الإمامية 8 : 154.
(6) جواهر الكلام 40 : 136.
(7) كشف اللثام 2 : 334 ط حجري.
(8) المبسوط في فقه الإمامية 8 : 154.
(9) وقد استشكل في الحكم بوجوب الإحضار مطلقاً جماعة، فعن المحقق الأردبيلي قدّس سرّه في شرح الإرشاد ( مجمع الفائدة 12 : 91 ): في الوجوب بل الجواز تأمل إن لم يكن إجماع، إذ مجرد الطلب إلى مجلس القاضي والدعوى ضرر وإهانة، ففعل ذلك من غير ظهور موجب محل تأمل، وكون الظاهر صحة دعواه لا يوجب ذلك وهو ظاهر، على أن تحرير الدعوى لا يضرّه بوجه. وفي المستند (17 : 138 ) بعد كلام له: وبالجملة : لا وجه تاماً لوجوب الإحضار مع جواز الحكم على الغائب، فالأقرب التخيير، والأولى البعث إليه وإخباره بأنه يحضر أو يحكم عليه. وفي الكفاية ( 2 : 680 ) ـ بعد أن نسب القول بالوجوب مطلقاً إلى المعروف من مذهب الأصحاب ـ والأحوط أن لا يحكم بإحضار قبل تحرير الدعوى ، لأن في الإحضار في مجلس الحكم نوع إيذاء. وقال السيد في العروة ( 3 : 30 ): والأقوى عدم وجوب إحضاره حتى بعد التحرير وعدم وجوب حضوره، بناء على جواز الحكم على الغائب عن البلد بل الحاضر فيه إذا أسقط حق حضوره. وقال السيد الخونساري: فإن تم الإجماع فلا كلام وإلاّ فيشكل، حيث أنه مع عدم ثبوت شيء على المدعى عليه ما وجه إلزامه ؟
(10) شرائع الإسلام 4 : 78.
(11) مسالك الأفهام 13 : 423 ـ 424.
(12) جواهر الكلام 40 : 138.
(13) المراد من المرأة البرزة هي غير المخدرة كما هو مقتضى التقابل بينهما، لكن المرجع فيه العرف والعادة كما نص عليه جماعة.