المسألة التاسعة
( هل ينعزل القاضي بموت الإمام ؟ )
قال المحقق قدّس سرّه: « إذا مات الإمام عليه السلام قال الشيخ: الذي يقتضيه مذهبنا انعزال القضاة أجمع. وقال في المبسوط: لا ينعزلون، لأن ولايتهم ثبتت شرعاً فلا تزول بموته. والأوّل أشبه »(1).
أقول: علّل في ( المسالك )(2) القول الأوّل بقوله: لأنهم نوّابه وولايتهم فرع ولايته، فإذا زال الأصل زال الفرع، ووافقه في ( الجواهر ) فيه وأضاف: فإن أمر كلّ عصر إلى إمام ذلك العصر. أي: إن قضاة ذلك العصر ينعزلون بموته ، ثم ينصبهم الإمام اللاّحق مرة أخرى أو ينصب غيرهم.
واستدلّ للقول الثاني: بأن ولاية القضاة قد ثبتت شرعاً فلا تزول بموت الإمام، ومع الشك تستصحب، وقد أيّد ذلك في ( الجواهر )(3) وغيره بما في الانعزال من الضرر العام للخلق ، بخلوّ البلدان من الحكام إلى أن يجدّد الإمام اللاّحق نوّاباً فتعطل الأحكام.
والصحيح أن يقال: إن كلّ فرد من الناس إذا وكّل أحداً أو أنابه أو أذن له في شئونه الخاصة والأمور التي بيده، فإنه إذا مات ينعزل الوكيل والنائب والمأذون بلا كلام، من غير فرق في ذلك بين الإمام وغيره، فإن كان القضاء كذلك ، بمعنى أن يكون أمر القضاء للإمام ، وأن القاضي ينوب عنه في القضاء أو يقوم بذلك وكالة عنه ، انعزل القضاة بموته ، لأن من قواعد المذهب انعزال الوكيل والنائب بموت الموكّل والمنوب عنه.
وإن كان القضاء نظير نصب المتولّي على الموقوفة أو الولاية على الصغار، فلا ينعزل بموت من نصبه، لأنه يقوم بالأمر بعنوان السلطنة لا بعنوان الوكالة والإذن.
وبما ذكرنا يظهر الحال في التمسّك بالإستصحاب ، لعدم انعزالهم بموت الإمام، لأن ولايتهم إن كانت من باب الوكالة فقد بطلت، وإن كانت من باب الولاية ، فلا شك في بقائها حتى تستصحب، بل لو شك يستصحب عدم جعل الولاية، ولا يعارضه استصحاب عدم كونه وكالة، لعدم الأثر.
ويمكن تقريب الإستدلال بأن يقال: إن الولاية قد يكون جعلها مقيداً بزمان حياة الإمام ، فلا ريب في انقطاعها بالموت، وقد يكون غير مقيد بذلك فهي مطلقة ، ولا ريب في بقائها بعد موت الإمام، ومع الشك في كونها مقيدة أو مطلقة يستصحب كلّي الولاية ، فلا ينعزل القاضي بموته وينفذ حكمه.
ولكن يشكل : بأنه يبتني على القول بجريان الإستصحاب مع الشك في المقتضي.
ويمكن أن يكون المستصحب عدم وجود القيد في الولاية، وليس هذا الاستصحاب مثبتاً ، لخفاء الواسطة، وحينئذ ، يسند بقاء الولاية المطلقة إلى الشارع.
وأمّا استصحاب نفوذ الحكم، ففيه: إن استصحاب الحكم مع الشك في تحقق موضوعه غير جائز، كما لا يجوز استصحاب قيام زيد مع الشك في وجوده.
وأمّا استدلالهم بلزوم الضرر العام بالانعزال، فيرد عليه: إن لزوم الضرر لا يفيد لإثبات عدم الانعزال، فلو أن ماء حكم بطهارته الظاهرية بالإستصحاب وتوضأ به مدة من الزمن ، وغسلت به الثياب ونحو ذلك، ثم انكشف الخلاف ، لم يكن الضرر العظيم المترتب على ذلك بمانع عن القول بنجاسة الماء.
إلاّ أن يقال: بأن لزوم الضرر يقتضي القول بعدم سقوط أحكام هؤلاء القضاة، وأما أصل ولايتهم على الحكم ، فلا تثبته قاعدة نفي الضرر، لأنه أمر تكويني.
قال في ( المسالك ): « والأظهر هو الأوّل، وقد يقدح هذا في ولاية الفقيه حال الغيبة وأن الإمام الذي قد جعله قاضياً وحاكماً قد مات، فيجري في حكمه ذلك الخلاف المذكور، إلاّ أن الأصحاب مطبقون على استمرار تلك التولية، فإنها ليست كالتولية الخاصة بل حكم بمضمون ذلك، فإعلامه بكونه من أهل الولاية على ذلك ، كإعلامه بكون العدل مقبول الشهادة وذي اليد مقبول الخبر وغير ذلك، وفيه بحث »(4).
قلت: وهو خلاف ظاهر المعتبرة حيث قال عليه السّلام « فإني جعلته حاكماً » ولم يقل: فحكمه نافذ ـ مثلاً ـ فلو كان حكماً إلهياً لم يكن متوقفاً على جعل من الإمام، بل ظاهر الرواية أن الحكومة لغير النبي والإمام متوقفة على الجعل وهو بيد الإمام عليه السلام، فيكون الحاصل: إن من كان معنوناً بتلك العناوين مجعول وليّاً من قبل الإمام، وليس هذا الجعل مقيّداً بزمان حياته، بل هو نظير جعل التولية على المسجد لإمام الجماعة من قبل الواقف، فليس من شك حتى يستصحب، وأما كون المسألة نظير الوكالة أو الحكم ، فكلّ ذلك خلاف الظاهر.
وبالجملة: إن كان تولّيهم للقضاء مستنداً إلى النيابة من ناحية الإمام أو إلى الوكالة عنه، كانت ولايتهم فرع ولاية الإمام وبموته ينعزلون، وإن كان جعلاً من قبله وسلطنة لهم على الحكم، فلا ينعزلون بموت الإمام.
فالحق في المسألة ما ذكرناه(5).
(1) شرائع الإسلام 4 : 71 ، المبسوط في فقه الامامية 8 : 127.
(2) مسالك الأفهام 13 : 359.
(3) جواهر الكلام 40 : 64.
(4) مسالك الأفهام 13 : 359.
(5) من بناء الخلاف فيها على كيفية الاستظهار من أدلة الإذن، ومقتضى استظهار الجعل غير المقيد بزمن الحياة ـ من معتبرة أبي خديجة ونحوها من تلك الأدلة ـ هو اختيار القول بعدم الانعزال بموت الإمام، وهذا البحث يختص بزمان الحضور، ولذا جعل في المسالك القول بالانعزال قادحاً في ولاية الفقيه الذي قد مات الإمام الذي جعله قاضياً وحاكماً وغاب الإمام المتأخر عنه، لأن المفروض هو الانعزال بموت السابق وعدم النصب المجدد من اللاحق لغيابه، لكن المحقق والجماعة جعلوا المعتبرة من أدلّة النفوذ في زمن الغيبة كما تقدم.