المسألة الأولى
( في المراد من الغائب )
قال المحقق قدّس سرّه: « يقضى على من غاب عن مجلس القضاء مطلقاً مسافراً وحاضراً، وقيل: يعتبر في الحاضر تعذّر حضوره مجلس الحكم »(1).
أقول: لا إشكال ولا خلاف في أنه يقضى على الغائب المتعذّر عليه الحضور من جهة مرض أو شبهه، أو كان ممتنعاً عن الحضور. ولا خلاف في صدق « الغائب » على المسافر بمقدار المسافة الشرعية، وأمّا إذا كان أقل منها، فعن يحيى ابن سعيد القول بعدم الصّدق(2)، ولعلّ دليله أن القدر المتيقن من « الغائب » هو المسافر بقدر المسافة الشرعية. وهو ضعيف، لصدق الغائب على المسافر بأقل منها حقيقة.
وإن كان حاضراً في البلد وغائباً عن مجلس الحكم، فالمشهور أنه كالغائب عن البلد، فيقضى على من غاب عن مجلس القضاء مطلقاً، قال في ( الجواهر )(3): وإن لم يتعذّر عليه الحضور، لكن فيه عن المبسوط وتعليق الإرشاد: يعتبر في الحاضر تعذر حضوره مجلس الحكم.
إلاّ أنا لم نجد في المبسوط ما نسب إليه، والشيخ قدّس سرّه لم يتعرض لمسألتنا، ويمكن أن يكون قد تعرّض لها في موضع آخر من كتابه.
وفي ( المسالك )(4): إن كان غائباً عن البلد قضى عليه باتّفاق أصحابنا ، سواء كان بعيداً أم قريباً، وكذا لو كان حاضراً في البلد وتعذّر حضوره في مجلس الحكم إما قصداً أو لعارض، ولو لم يتعذّر حضوره فالمشهور الجواز أيضاً، لعموم الأدلّة، وقال الشيخ في المبسوط(5): لا يحكم عليه حينئذ، لأن القضاء على الغائب موضع ضرورة فيقتصر فيه على محلّها، ولأنه ربما وجد مطعناً ومدفعاً وجاز في الغائب للمشقة بطول انتظاره، والأظهر الأوّل.
ولعلّ المشهور قد حملوا أدلّة السؤال من المدّعى عليه على الحاضر في المجلس، أو حملوا « الغائب » في أدلّة القضاء عليه على من غاب عن المجلس ، فتكون هذه الأدلّة مخصصة لأدلّة السؤال من المدعى عليه، بناءاً على عموم التعليل الموجود فيها، لأن ظهور « يقضى على الغائب » أقوى من ظهور العلّة في تلك الأدلّة، ويجوز حمل العلّة على الإستحباب أو العليّة الناقصة… لكن في الحكم على الغائب عن المجلس تردّد، وإن كان ما ذهب إليه المشهور هو الأظهر، وكونه على حجته إذا قدم يدفع الضرر عنه.
هذا، ولا يجب على الحاكم الإرسال خلف المدّعى عليه للحضور في المجلس ، إلاّ أن يلتمس المدعي ذلك.
ثم، هل يشترط في الحكم عليه دعوى جحوده كما في ( القواعد )(6) التوقّف فيه، بل عن ( التحرير )(7) الجزم بعدم سماع بينته إلاّ لأخذ المال لو اعترف باعترافه ـ ومرجعه إلى اشتراط ادّعاء الجحود إذا طلب الحكم دون المال ـ والتردّد إذا لم يتعرّض لجحوده ، من اشتراط سماعها به ولم يعلم، ومن تنزل الغيبة منزلة السكوت النازل منزلة الجحود، لاحتماله الجحود في الغيبة وأن لا يقدر بعد على الإثبات إذا ظهر الجحود ؟
قال في ( الجواهر ): لا يخفى عليك إطلاق النصّ والفتوى ومعقد الإجماع(8) .
أقول: على أنه إذا كان مبنى الحكم كون المدّعى عليه جاحداً ، فيلزم في صورة إقرار المدعى عليه أن لا يحكم الحاكم بعد الإقرار، نعم، له أن يأمره بدفع ما أقرّ فيه لو كان متساهلاً في تسليمه… وإلاّ فلا معنى لتوقف تنفيذ حكم الله على حكم الحاكم في القضية، إلاّ أن يقال بأن الله عزّوجل قد أذن للحاكم أن ينشئ الحكم حتى تترتب الآثار على الحكم الشرعي، إن كان لحكمه أثر زائد على الإقرار ـ لأن المسلّم به أنه لا يسمع الإنكار بعد الإقرار ، وأن الإقرار كحكم الحاكم في فصل الخصومة ـ كأن يكون أثر الحكم عدم سماع دعواه الإشتباه ـ مثلا ـ في الإقرار .
قال في (الجواهر): نعم ، قد يتوقّف في صورة العلم باعترافه ، بناءاً على اشتراط الخصومة في مطلق القضاء على الحاضر، وقد عرفت الكلام فيه سابقاً، والمتيقن من الخبرين غير المفروض، نعم، لا إشكال في تناولهما غير معلوم الحال كما هو واضح.
أقول: لكن دعوى انصراف الخبرين عن هذه الصورة مشكلة.
(1) شرائع الإسلام 4 : 86.
(2) الجامع للشرائع : 527.
(3) جواهر الكلام 40 : 222.
(4) مسالك الأفهام 13 : 467.
(5) المبسوط في فقه الإمامية 8 : 162.
(6) قواعد الأحكام 3 : 454.
(7) تحرير الأحكام 5 : 147.
(8) جواهر الكلام 40 : 221.