آداب القاضي والقضاء
وهي قسمان:
* الآداب المستحبة
* الآداب المكروهة
قال المحقق قدّس سرّه(1): « النظر الثاني في الآداب(2) وهي قسمان: مستحبة ومكروهة.
فالمستحب: أن يطلب(3) من أهل ولايته من يسأله عما يحتاج إليه في أمور بلده، وأن يسكن عند وصوله في وسط البلد ليرد الخصوم عليه وروداً متساوياً، وأن ينادى بقدومه إن كان البلد واسعاً لا ينتشر خبره فيه إلا بالنداء، وأن يجلس للقضاء في موضع بارز مثل رحبة أو فضاء ليسهل الوصول إليه، وأن يبدأ بأخذ ما في يد الحاكم المعزول من حجج الناس وودائعهم(4).
ولو حكم في المسجد صلّى عند دخوله تحية المسجد، ثم يجلس مستدبر القبلة ليكون وجه الخصوم إليها، وقيل: يستقبل القبلة لقوله عليه السلام: خير المجالس ما استقبل به القبلة، والأوّل أظهر(5).
ثم يسأل عن أهل السجون ويثبت أسماءهم وينادي في البلد بذلك ويجعل له وقتاً، فإذا اجتمعوا أخرج اسم واحد واحد ويسأله عن موجب حبسه ويعرضه على خصمه، فإن ثبت لحبسه موجب أعاده وإلاّ أشاع حاله بحيث إن لم يظهر له خصم أطلقه(6).
وكذا لو أحضر محبوساً وقال: لا خصم لي، فإنه ينادى في البلد، فإن لم يظهر له خصم أطلقه. وقيل: يحلفه مع ذلك(7).
ثم يسأل عن الأوصياء وعن الأيتام ويعمل معهم ما يجب من تضمين أو إنفاذ أو إسقاط ولاية، إما لبلوغ اليتيم أو لظهور خيانة أو ضمّ مشارك إن ظهر من الوصي عجز.
ثم ينظر في أمناء الحاكم الحافظين لأموال الأيتام الذين يليهم الحاكم، ولأموال الناس من وديعة ومال محجور عليه، فيعزل الخائن ويسعد الضعيف بمشارك أو يستبدل به بحسب ما يقتضيه رأيه. ثم ينظر في الضوال واللّقط، فيبيع ما يخشى تلفه وما يستوعب نفقته ثمنه، ويتسلّم ما عرّفه الملتقط حولاً إن كان شيء من ذلك في يد أمناء الحاكم، ويستبقي ما عدا ذلك مثل الأثمان والجواهر محفوظة على أربابها لتدفع إليهم عند الحضور على الوجه المحرر ، ويحضر من أهل العلم(8) من يشهد حكمه فإن أخطأ نبّهوه ، لأن المصيب عندنا واحد، ويخاوضهم فيما يشتبه من المسائل النظرية لتقع الفتوى مقررة.
ولو أخطأ فأتلف لم يضمن ، وكان على بيت المال(9).
وإذا تعدّى أحد الغريمين عرّفه خطأه برفق، فإن عاد زجره، فإن عاد أدبّه بحسب حاله، مقتصراً على ما يوجب لزوم النمط.
(1) شرائع الإسلام 4 : 72 ـ 76.
(2) لم يتعرض السيد الأستاذ دام ظله في الدرس للآداب توفيراً للوقت، لكنّا نذكر متن عبارة المحقق قدّس سرّه مع بعض الفوائد الأخرى التي ذكرها الأصحاب في هذا المقام، لئلاّ يخلو الكتاب من هذا المبحث، وقد صرّحوا بأن كثيراً من هذه الآداب لا دليل عليه بالخصوص.
(3) في المسالك ( 14 : 365 ): أن يطلب قبل قدومه إلى البلد… فإن لم يتيّسر له ذلك قبل الدخول سأل حين يدخل. قال: قيل: ويستحب أن يكون الدخول يوم الاثنين تأسياً بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حيث دخل المدينة في ذلك اليوم. قال في الجواهر: وهو كما ترى.
قال: نعم في كشف اللثام: ينبغي له أن يقصد الجامع إذا قدم ويصلّي ركعتين ويسأل الله العصمة والإعانة.
(4) لأنها كانت في يد الأوّل بحكم الولاية، وقد انتقلت الولاية إليه، فيتوصل بذلك إلى تفاصيل أحوال الناس ومعرفة حقوقهم وحوائجهم.
(5) وفاقاً للأكثر ومنهم الشيخ في النهاية ( 338 )، ولم يظهر وجه كونه الأظهر مع وجود النص المذكور على استحباب الجلوس مستقبل القبلة، قال في جامع المدارك: والجلوس مستدبر القبلة لا دليل على استحبابه ، بل المستحب بنحو الإطلاق الجلوس مستقبل القبلة، وذكر في وجه ذلك كون الخصوم مستقبلي القبلة لعلّهم يخافون الله ويرجعون عن الظلم. ولا يخفى أن هذا لا يوجب استحباب استدبار القبلة للقاضي.
(6) في الجواهر ( 40 : 74 ): « وجواب المحبوس يفرض على وجوه:
منها ـ أن يعترف بالحبس بالحق، فإن كان ما حبس به مالاً أمر بأدائه، فإن قال: أنا معسر فعلى ما عرفته في الفلس، فإن لم يؤد ولم يثبت إعساره ردّ إلى الحبس، وإن أدّى أو ثبت إعساره نودي عليه فلعلّ له خصماً آخر، فإن لم يظهر خلّي سبيله، وإن كان ما حبس عليه حداً أقيم عليه وخلي.
ومنها ـ أن يقول: شهدت علي البينة فحبسني القاضي، يبحث عن حال الشهود، فإن كان مذهبه أنه يحبس بذلك تركه أيضاً محبوساً وبحث وإلا أطلقه.
ومنها ـ أن يقول: حبست ظلماً، ففي المسالك: إن كان الخصم معه فعلى الخصم الحجة، والقول قول المحبوس بيمينه. وفيه: إنه يمكن العكس عملاً بأصالة الصحة في فعل القاضي.
وإن كان للمحبوس خصم غائب ففي إطلاقه وإبقائه في الحبس وجوه: الإطلاق، لأنه عذاب وانتظار الغائب قد يطول، والإبقاء مع الكتابة إلى خصمه، فإن لم يحضر أطلق، والإطلاق مع المراقبة إلى أن يحضر خصمه ويكتب إليه أن يعجّل، فإن تأخّر لا لعذر تركت المراقبة. وعن الشهيد التخيير بينها وبين الكفيل، وهو جيّد، إذ المدار على الجمع بين الحقّين ».
وأورد عليه في جامع المدارك بأنه: كيف يكون من المستحبات ! فإن المدين مع إظهار العسر يحبس حتى يتبيّن حاله، ومع تبيّن إعساره لا مجوّز لحبسه، فكيف يكون السؤال عن حاله وموجب حبسه مستحباً !
(7) في الجواهر ( 40 : 75 ): إستحسنه بعضهم. وفيه: أنه لا وجه مع عدم خصم له، والأصل البراءة، ولذا نسبه المصنف إلى القيل مشعراً بتمريضه.
(8) في المسالك ( 13 : 373 ): المراد بأهل العلم المجتهدون في الأحكام الشرعية لا مطلق العلماء، وخالفه في الجواهر حيث قال: ولا يعتبر فيهم الاجتهاد لأنه ليس المراد تقليدهم. وفي المستند: إنه لا ينحصر من ينبغي إحضاره بالمجتهدين، إذ يجوز لغير المجتهد تنبيه المجتهد فما في المسالك ليس بجيّد. لكن في جامع المدارك: وكذلك إحضار أهل العلم حال الحكم لكونه في معرض السهو والخطأ، فمع الإطمئنان بعدم السهو والخطأ يكون معذوراً إذا أخطأ، ومع عدم الإطمئنان كيف يجوز له الحكم حتى يقال: يستحب إحضارهم للتنبيه على الغفلة والخطأ.
(9) قد تقدّم في الكتاب أنه مع عدم تقصير القاضي في الحكم وتحصيل مقدماته لا يضمن شيئاً لو أخطأ في الحكم، بل يكون على بيت المال. قال في الجواهر: بلا خلاف أجده فيه نصاً وفتوى. وفي الوسائل: باب أن أرش خطأ القاضي في دم أو قطع على بيت المال. وقد جاء فيه: عن الأصبغ بن نباتة قال: « قضى أمير المؤمنين عليه السلام: أن ما أخطأت القضاة في دم أو قطع فهو على بيت مال المسلمين » وسائل الشيعة 27 : 226/10 . أبواب آداب القاضي ، الباب 10 ، وهو ـ كما ترى ـ وارد في مورد دية الدم والقطع لكن عباراتهم مطلقة، وللسيّد في العروة في صورة كون مورد الحكم مالاً تفصيل ، فراجع العروة 3 : 29.