استحباب تقديم العظة و تغليظ اليمين:
قال المحقق: « ويستحب للحاكم تقديم العظة على اليمين والتخويف من عاقبتها »(1).
أقول: بأن يذكر له مما ورد من ذلك في الأخبار مثل:
1 ـ « من حلف بالله كاذباً كفر ومن حلف بالله صادقاً أثم »(2).
2 ـ « إن يمين الصبر الكاذبة تترك الديار بلاقع »(3).
3 ـ « من حلف على يمين وهو يعلم أنه كاذب فقد بارز الله »(4).
4 ـ « اليمين الصبر الكاذبة تورث العقب الفقر »(5).
5 ـ « … إن اليمين الكاذبة وقطيعة الرحم ليذران الديار بلاقع من أهلها وتثقلان الرحم، وإن ثقل الرحم انقطاع النسل »(6).
6 ـ « قال الله عزّ وجل: لا أُنيل رحمتي من يعرّضني للأيمان الكاذبة … »(7).
قال المحقق: « ويكفي أن يقول: والله ماله قبلي حق ».
أقول: والدليل على ذلك إطلاق الأدلّة.
قال: « وقد يغلظ اليمين بالقول والزمان والمكان، لكن ذلك غير لازم ولو التمسه المدعي، بل هو مستحب استظهاراً في الحكم »(8).
أقول: يدلّ على عدم وجوب التغليظ إطلاق الأدلّة في الأيمان، ويدلّ فعل أمير المؤمنين في إحلاف الأخرس كغيره من الأخبار على جواز التغليظ في اليمين، وقد استدلّ به على الإستحباب.
قلت: وفيه : إنه عليه السلام كتب تلك الكلمات وغسلها، وأمر الأخرس بشرب ذلك الماء، فإن كان الأخرس يعرف القراءة تحقق التغليظ ، وإلاّ فأي تأثير لهذه الكلمات من حيث التغليظ ؟ هذا غير واضح عندنا.
ثم إن الإمام قد حكم بعد امتناعه عن شرب ذلك الماء ، من دون ردّ لليمين على المدّعي ، وهذا يخالف سائر الأخبار والقاعدة المقرّرة في فصل الخصومة وكيفية القضاء، مع أن فعل الإمام عليه السلام لا يدلّ على استحباب التغليظ، وإنما على الجواز كما ذكر، فالتمسك بها لاستحباب التغليظ في اليمين في غير محلّه.
وقد يستدل بما رواه صفوان الجمال: « إن أبا جعفر المنصور قال لأبي عبد الله عليه السلام: رفع إلىّ أن مولاك المعلّى بن خنيس يدعو إليك ويجمع لك الأموال ، فقال: والله ما كان ـ إلى أن قال المنصور ـ فأنا أجمع بينك وبين من سعى بك، قال: فافعل. فجاء الرجل الذي سعى به، فقال له أبو عبد الله عليه السلام: يا هذا أتحلف ؟ فقال: نعم والله الذي لا إله إلاّ هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم لقد فعلت. فقال له أبو عبد الله عليه السلام: ويلك، تبجّل الله فيستحي من تعذيبك ولكن قل: برئت من حول الله وقوته وألجئت إلى حولي وقوّتي، فحلف بها الرجل فلم يستتمها حتى وقع ميتاً. فقال أبو جعفر المنصور: لا اُصدّق عليك بعد هذا أبداً، وأحسن جائزته و ردّه »(9).
ولكن دلالتها على الاستحباب غير واضحة.
واستدلّ برواية السيد الرضي قدّس سرّه عن أمير المؤمنين عليه السلام : « أحلفوا الظالم إذا أردتم يمينه بأنه بري من حول الله وقوّته، فإنه إذا حلف بها كاذباً عوجل، وإذا حلف بالله الذي لا إله هو لم يعاجل، لأنه قد وحّد الله سبحانه »(10).
وهذه الرواية لا تدلّ على الإستحباب، بل الأمر فيها ظاهر في الإرشاد، ويشهد بذلك قوله بعده: إذا أردتم…
واستدلّ برواية الراوندي قدّس سرّه عن الرضا عليه السلام عن أبيه : « إن رجلاً وشى إلى المنصور أن جعفر بن محمد عليه السلام يأخذ البيعة لنفسه على الناس ليخرج عليهم، فأحضره المنصور، فقال الصّادق عليه السلام: ما فعلت شيئاً من ذلك، فقال المنصور لحاجبه: حلّف هذا الرجل على ما حكاه عن هذا ـ يعني الصادق عليه السلام ـ فقال الحاجب: قل والله الذي لا إله إلا هو، وجعل يغلظ عليه اليمين. فقال الصّادق عليه السلام: لا تحلّفه هكذا… فقال المنصور: فحلّفه إذاً يا جعفر، فقال الصّادق عليه السلام للرجل: قل: إن كنت كاذباً عليك فبرئت من حول الله وقوّته ولجأت إلى حولي وقوّتي. فقالها الرجل، فقال الصّادق عليه السلام: اللهم إن كان كاذباً فأمته، فما استتم كلامه حتى سقط الرجل ميتاً … »(11) وهذا أيضاً لا يدلّ على الاستحباب.
فالإنصاف: إنه لا دليل على استحباب التغليظ، ومن هنا قال في ( المسالك ) : هذا الحكم هو المشهور بين الأصحاب، وذكروا أنه مروي، وما وقفت على مستنده(12).
وكيف كان، فقد قال المحقق: « فالتغليظ بالقول مثل أن يقول: والله الذي لا إله إلاّ هو الرحمن الرحيم الطالب الغالب الضار النافع المدرك المهلك الذي يعلم من السرّ ما يعلمه من العلانية ، ما لهذا المدعي علي شيء مما ادّعاه ، ويجوز التغليظ بغير هذه الألفاظ مما يراه الحاكم »(13).
أقول: كما في رواية إحلاف الأخرس، ورواية نهج البلاغة، وغيرهما.
قال: « وبالمكان، كالمسجد والحرم وما شاكله من الأماكن المعظّمة ، وبالزمان، كيوم الجمعة والعيد وغيرها من الأوقات المكرّمة ».
أقول: ومن التغليظ ما تعارف بين الناس فعله ، من وضع اليد على المصحف الشريف في حال أداء اليمين.
قال: « ويغلظ على الكافر بالأماكن التي يعتقد شرفها ، والأزمان التي يرى حرمتها ».
أقول: يدلّ عليه ما رواه الحسين بن علوان ، عن جعفر ، عن أبيه « أن علياً كان يستحلف اليهود والنصارى في بيعهم وكنائسهم ، والمجوس في بيوت نيرانهم ويقول : شدّدوا عليهم احتياطاً للمسلمين »(14).
وما رواه أبو البختري عن جعفر عن أبيه « إن علياً عليه السلام كان يستحلف اليهود والنصارى بكتابهم، ويستحلف المجوس ببيوت نيرانهم »(15) .
قال: « ويستحب التغليظ في الحقوق كلّها وإن قلّت عدا المال، فإنه لا يغلظ فيه بما دون نصاب القطع ».
أقول: استحباب التغليظ هو المشهور، بل ادّعي عليه الإجماع، لكن تقدّم أنه لا دليل عليه، وأما النهي عن التغليظ في المال الأقل من نصاب القطع، فقد ورد في خصوص كونه عند قبر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو ما رواه محمد بن مسلم وزرارة عنهما عليهما السلام جميعاً قالا: « لا يحلّف أحد عند قبر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على أقلّ مما يجب فيه القطع »(16).
(1) شرائع الإسلام 4 : 87.
(2) وسائل الشيعة 23 : 199/6 . كتاب الأيمان ، الباب 1.
(3) وسائل الشيعة 23 : 203/2 . كتاب الأيمان ، الباب 4.
(4) وسائل الشيعة 23 : 203/4 . كتاب الأيمان ، الباب 4.
(5) وسائل الشيعة 23 : 204/7 . كتاب الأيمان ، الباب 4.
(6) وسائل الشيعة 23 : 207/15 . كتاب الأيمان ، الباب 4.
(7) وسائل الشيعة 23 : 208/17 . كتاب الأيمان ، الباب 4.
(8) شرائع الإسلام 4 : 78.
(9) وسائل الشيعة 23 : 269/1 . كتاب الأيمان ، الباب 33.
(10) وسائل الشيعة 23 : 270/2 . كتاب الأيمان ، الباب 33.
(11) وسائل الشيعة 23 : 270/3 . كتاب الأيمان ، الباب 34.
(12) مسالك الأفهام 13 : 478.
(13) شرائع الإسلام 4 : 87 .
(14) وسائل الشيعة 23 : 268/11 . كتاب الأيمان ، الباب 32.
(15) وسائل الشيعة 23 : 268/12 . كتاب الأيمان ، الباب 32.
(16) وسائل الشيعة 27 : 298/1 . أبواب كيفية الحكم ، الباب 29.