أمور أخرى تثبت بالإستفاضة:
قال المحقق: « وكذا يثبت بالإستفاضة النسب والملك المطلق والموت والنكاح والوقف والعتق »(1).
أقول: يكفي في ثبوت النسب ـ كما لو شك في كون زيد هاشميّاً مثلاً ـ شياع ذلك في بلده حيث لا طريق آخر إلى إثباته، وكذا الأمر في الوقف، فلو شاع أن القرية الفلانيّة موقوفة للجهة الكذائية ، كفى ذلك في ثبوت الوقف، حيث لا طريق مفيداً للعلم بذلك ، وكذا الموت، فإنه قد يشهد بذلك شاهدان عادلان أو يحصل العلم الوجداني بالموت ، وأما مع عدمهما كالموت في السفر ـ مثلاً ـ فلاطريق إلى الثبوت إلا الشياع، فتقسم الأموال وتترتب الآثار… وكذا الأمر في الملك المطلق، فإنه لا طريق إلى إثباته إلاّ بالأخذ بالشياع، لأن تواطى الناس على ذلك محال عادة، وكذا النكاح والعتق.
والدليل على كفاية الإستفاضة في ثبوت هذه الامور هو السيرة ـ كما أنها الدليل المعتمد عليه في حجية خبر الواحد ـ فإن أهل العرف يرتّبون الأثر في مثل هذه الامور على الإستفاضة فيها، لأنها مفيدة للوثوق النوعي عندهم.
أقول: ونفس إقامة الدليل على الإعتماد على الإستفاضة ، دليل على أنهم لا يريدون من الإستفاضة ما يفيد العلم أو الإطمينان المتاخم له، وإلاّ فنفس العلم أو الإطمينان دليل.
وفي ( المسالك ): الإستفاضة المفيدة للعلم دليل حجيّتها هو العلم، والمفيدة للظن دليل حجيتها السيرة، ولكن السيرة لا تتحقق إلا في موارد مخصوصة ومنها الولاية على القضاء، لأنه لولا الإستناد إليها يلزم العسر والحرج، لعدم إمكان إقامة البيّنة(2).
وعن بعضهم دليل آخر على حجيّة الإستفاضة وهو: إن الحجة لا تقام عند الحاكم وإلا لزم الدور، مثاله: إذا كان في البلد قاض ، وقد نصب الحاكم قاضياً آخر ، ولم يعتبر الشياع ولا البينة إلا بحكم، وتوقف قبول البيّنة على ولاية الثاني على الحكم، فإن كان الحاكم بثبوت ولاية الثاني هو القاضي الأوّل، فإن المفروض سبق عزله ثبوت ولاية القاضي الجديد ، بناءاً على القول بسقوط ولايته بمجرد نصب الثاني، فلا ينفذ حكمه، وكذلك الأمر بناءاً على القول بانعزاله ببلوغه خبر نصب الثاني، لأنه مع وصول الخبر ينعزل، فلو أراد أن يحكم ، لم ينفذ حكمه بولاية الثاني . وإن كان الحاكم بثبوت الولاية هو القاضي الثاني نفسه، فإن ثبوت ولايته يتوقف على حكمه، وحكمه يتوقف على ثبوت ولايته، وهذا دور ظاهر.
أقول: هذا يتم فيما إذا لم يكن هناك قاض آخر غير الأوّل المعزول، أو لم يكن في بلد آخر قاض يمكنهم الرجوع إليه لأجل الحكم.
وقال في ( المسالك ): « وهذا يتم على القول بعدم جواز تعليق العزل على شرط، وقد جوّزه العلاّمة في القواعد »(3)(4).
لكن فيه: إنه لا يوافق قواعد الأصحاب، وقد حكموا ببطلان الوكالة المعلّقة ، أي: لا يصح تعليق الوكالة على شرط ، ولابدّ من كونها منجّزة، فإذا كان التعليق مبطلاً لها مع كونها من العقود الإذنية، فإن إبطاله للولاية التي ليست منها يكون بطريق أولى.
وقيل : بالفرق بين الولاية والوكالة، لأن الوكالة من العقود. فلابدّ لها من الصيغة الممتنع فيها التعليق شرعاً، والولاية ليست من العقود بل هو جعل للمنصب نظير جعل الوجوب والحرمة، فيجوز في الولاية ما لا يجوز في الوكالة، فيجوز أن يكون الأوّل معزولاً عن الولاية في ظرف ثبوت ولاية الثاني، فحينئذ يحكم بولاية الثاني وينعزل هو عن القضاء.
وهذه بحوث علمية بحتة ليست محلاً للإبتلاء فعلاً، نعم يجري البحث لو قلنا بقبول القضاء للوكالة، كأن يوكّل الثاني ويرسله إلى البلد، فإنه بوصوله إليه ينعزل الأوّل، ومن البحوث العلمية قول المحقق:
« ولو لم يستفض ، إما لبعد موضع ولايته عن موضع عقد القضاء له أو لغيره من الأسباب ، أشهد الإمام عليه السلام أو من نصبه الإمام على ولايته شاهدين بصورة ما عهد إليه و سيرهما معه ليشهدا له بالولاية ».
وكيف كان: « لا يجب على أهل الولاية قبول دعواه مع عدم البيّنة وإن شهدت له الأمارات ، ما لم يحصل اليقين ».
(1) شرائع الإسلام 4 : 70.
(2) مسالك الأفهام 13 : 351 ـ 352.
(3) مسالك الأفهام 13 : 351 ـ 352.
(4) قواعد الأحكام 2 : 203.