5 ـ عبـد الرحمن بن أُمّ الحكم
ثـمّ إنّ معاوية عـزل الضحّـاك بـن قيـس سـنة 57، وولّى مـكـانـه عبـد الرحمن بن أُمّ الحكم، واستدعى الضحّاك إلى الشام فكان معه إلى أن مات معاوية وصلّى عليه كما تقدّم، وهذه خلاصة ترجمة عبـد الرحمن المذكور، كما في تاريخ دمشق وغيره(1):
هو: عبـد الرحمن بن عبـد الله بن عثمان الثقفي، وأُمّه أُمّ الحكم بنت أبي سفيان، أُخت معاوية. روى عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم مرسلا، وقيل: إنّ له صحبة، وصلّى خلف عثمان بن عفّان.
كان جدّه عثمان يحمل لواء المشركين يوم حنين، فقتله أمير المؤمنين عليّ عليه السلام.
ولاّه معاوية على الكوفة، ثمّ عزله عنها فولاّه مصر ثمّ الجزيرة، فكان عليها حتّى مات معاوية.
? ومن أخباره ما رواه ابن عساكر:
«كان عبـد الرحمن بن أُمّ الحكم ينازع يزيد بن معاوية كثيراً، فقال معاوية لأبي خداش بن عتبة بن أبي لهب: إنّ عبـد الرحمن لا يزال يتعرّض ليزيد، فتعرّض له أنت حتّى تُسمع يزيد ما يجري بينكما ولك عشرة آلاف درهم.
قال: عجّلها لي! فعجّلها له، فحُملت إليه، ثمّ التقوا عند معاوية، فقال أبو خداش: يا أمير المؤمنين! أعدني على عبـد الرحمن، فإنّه قتل مولىً لي بالكوفة.
فقال عبـد الرحمن: يا بن بنت! ألا تسكت؟!
فقال أبو خداش لعبـد الرحمن: يا بن تمدّر، يا بن البريح، يا بن أُمّ قدح!
فقال معاوية: يا أبا خداش! حسـبك، يرحمك الله على دية مولاك.
فخرج أبو خداش ثمّ عاد إلى معاوية، فقال: أعطني عشرة آلاف أُخرى، وإلاّ أخبرت عبـد الرحمن أنّك أنت أمرتني بذلك; فأعطاه عشرة آلاف، وقال: فسِّر ليزيد ما قلتَ لعبـد الرحمن.
قال: هنّ أُمّهات لعبـد الرحمن حبشيات، وقد ذكرهنّ ابن الكاهلية الثقفي، وهو يهجو ابن عمّ لعبـد الرحمن:
ثلاث قد ولدنك من حُبُوش *** إذا يسمو خدينك بالزمامِ
تمدّر والبريح وأُمّ قدح *** ومجلوبٌ يعدّ من آلِ حامِ»
? ومنها ما رواه ابن الجوزي حين قال:
«وجرت لعبـد الرحمن ابن أُمّ الحكم قصّة عجيبة، أخبرنا بها محمّـد ابن ناصر الحافظ، قال: أخبرنا المبارك بن عبـد الجبّار، وأخبرتنا شهدة بنت أحمد الكاتبة، قالت: أخبرنا جعفر بن أحمد السرّاج، قال: أخبرنا أبو محمّـد الجوهري، قال: أخبرنا أبو عمر ابن حيويه، قال: حدّثنا محمّـد بن خلف، قال: حدّثني محمّـد بن عبـد الرحمن القرشي، قال: حدّثنا محمّـد ابـن عبـيـد، قـال: حدّثـنا محمّـد بن خلـف، قال: حدّثـني محمّـد بن عبـد الرحمن القرشي، قال: حدّثنا محمّـد بن عبيد، قال: حدّثنا أبو مخنف، عن هشام بن عروة، قال:
أذن معاوية بن أبي سفيان يوماً، فكان في مَن دخل عليه فتىً من بني عذرة، فلمّا أخذ الناس مجالسهم قام الفتى العذري بين السماطين ثمّ أنشأ يقول:
معاوي يا ذا الفضل والحكم والعقل *** وذا البرّ والإحسان والجود والبذلِ
أتيتك لمّا ضاق في الأرض مسلكي *** وأَنكرتُ ممّا قد أُصبت به عقلي
ففرّج كلاك الله عنّي فإنّني *** لقيت الذي لم يلقه أحدٌ قبلي
وخذ لي هداك الله حقّي من الذي *** رماني بسهم كان أهونه قتلي
وكنت أُرجّي عدله إن أتيته *** فأكثر تردادي مع الحبس والكبلِ
فطلّقتها من جهد ما قد أصابني *** فهذا أمير المؤمنين من العذلِ
فقال معاوية: ادن بارك الله عليك، ما خطبك؟
فقال: أطال الله بقـاء أمير المؤمنين، إنّني رجل من بني عذرة، تزوّجت ابنة عمّ لي، وكانت لي صرمة من إبل وشويهات، فأنفقت ذلك عليها، فلمّا أصابتني نائبة الزمان وحادثات الدهر رغب عنّي أبوها، وكانت جارية فيها الحياء والكرم، فكرهت مخالفة أبيها، فأتيت عاملك ابن أُمّ الحكم فذكرت ذلك له، وبلغه جمالها، فأعطى أباها عشرة آلاف درهم وتزوّجها، وأخذني فحبسني وضيّق علَيَّ، فلمّا أصابني مسّ الحديد وألم العذاب طلّقتها، وقد أتيتك يا أمير المؤمنين وأنت غياث المحروب وسند المسلوب، فهل من فرج؟
ثمّ بكى وقال في بكائه:
في القلب منّي نار *** والنار فيها شرار
والجسم منّي نحيل *** واللون فيه اصفرارُ
والعين تبكي بشجو *** ودمعها مدرار
والحبُّ داء عسير *** فيه الطبيب يحارُ
حملت منه عظيماً *** فما عليه اصطبار
فليس ليلي بليل *** ولا نهاري نهارُ
فرقّ له معاوية، وكتب له إلى ابن أُمّ الحكم كتاباً غليظاً، وكتب في آخره يقول:
ركبتَ أمراً عظيماً لستُ أعرفه *** أستغفرُ الله من جور امرئ زانِ
قد كنتَ تشبه صوفيّاً له كتب *** من الفرائض أو آثار فرقانِ
حتّى أتاني الفتى العذري منتحباً *** يشكو إليّ بحقّ غير بهتانِ
أعطى الإله عهوداً لا أجيش بها *** أو لا فبرِّئت من دين وإيمانِ
إن أنت راجعتني في ما كتبتُ به *** لأجعلنَّك لحماً عند عقبانِ
طلّق سعاد وفارقها بمجتمع *** وأشهِد على ذاك نصراً وابنَ ظبيانِ
فما سمعت كما بلّغت من عجب *** ولا فِعالك حقّـاً فِعل إنسانِ
فلمّا ورد كتاب معاوية على ابن أُمّ الحكم تنفّس الصعداء وقال: وددت أنّ أمير المؤمنين خلّى بيني وبينها سنة ثمّ عرضني على السيف!
وجعل يؤامر نفسه في طلاقها فلا يقدر، فلمّا أزعجه الوفد طلّقها، ثمّ قال: يا سعاد، اخرجي.
فخرجت شكلة غنجة، ذات هيئة وجمال، فلمّا رآها الوفد قالوا: ما تصلح هذه إلاّ لأمير المؤمنين لا لأعرابي.
وكتب جواب كتابه يقول:
لا تحنـثنَّ أميرَ المؤمنين فقد *** أوفى بعهدك في رفق وإحسانِ
وما ركبتُ حراماً حيث أعجبني *** فكيف سُمّيت باسم الخائن الزاني
وسوف يأتيك شمس لا خفاء بها *** أبهى البريّة من إنس ومن جانِ
حوراء يقصر عنها الوصف إنْ وُصفت *** أقول ذلك في سرّ وإعلانِ
فلمّا ورد الكتاب على معاوية، قال: إن كانت أعطيت حسـن النعمة على هذه الصفة فهي أكمل البرية; فاستنطقها، فإذا هي أحسـن الناس كلاماً وأكملهم شكلا ودلاًّ، فقال: يا أعرابي! فهل من سلو عنها بأفضل الرغبة؟
قال: نعم، إذا فرّقت بين رأسي وجسدي! ثمّ أنشأ يقول:
لا تجعلنّي والأمثال تضرب بي *** كالمسـتغيث من الرمضاء بالنارِ
أُردد سعاد على حيران مكتئب *** يمسي ويصبح في همّ وتذكارِ
قد شفّه قلق ما مثله قلق *** وأسعر القلب منه أيّ إسعارِ
والله والله لا أنسى محـبّـتها *** حتّى أُغيّب في رمس وأحجارِ
كيف السلوّ وقد هام الفؤاد بها *** وأصبح القلب عنها غير صبّـارِ
قال: فغضب معاوية غضباً شديداً، ثمّ قال لها: اختاري! إن شئت أنا، وإن شـئت ابن أُمّ الحكم، وإن شـئت الأعرابي.
فأنشأت سعاد وارتجزت تقول:
هذا وإن أصبح في الخمار *** وكان في نقص من اليسارِ
أكثر عندي من أبي وجاري *** وصاحب الدرهم والدينارِ
أخشـى إذا غدرت حـرّ النـارِ
فقال معاوية: خذها لا بارك الله لك فيها.
فارتجز الأعرابي يقول:
خلّوا عن الطريق للأعرابي *** ألم ترقّوا ـ وَيْحَكُمْ ـ لِما بي؟!
قال: فضحك معاوية وأمر له بعشرة آلاف درهم وناقة ووطاء. وأمر بها فأُدخلت في بعض قصوره حتّى انقضت عدّتها من ابن أُمّ الحكم، ثمّ أمر بدفعها إلى الأعرابي»(2).
? قال ابن عساكر:
«قَتل عبـدُ الرحمن بن أُمّ الحكم ابنَ صلوبا، فجاء الشيخ صلوبا فدخل المسجد آخذاً بلحية بيضاء، قال: فقال: يا معشر المسلمين! على ما قُتل ابني؟! على هذا صالحتُ عمر بن الخطّاب; قال: فقال الناس: ذمّتكم ذمّتكم! فاجتمع الناس، وجاء جرير، قال: فجاء عبـدَ الرحمن ناسٌ فقالوا له: إنّـا نخاف عليك، فأغلق باب المقصورة.
أخْبَرَنا أبو القاسم بن الحُصَين، أنا الحسـن بن عيسى بن المقتدر، أنا أبو العبّاس أحمد بن منصور اليشكري، أنا أبو عبـد الله الصولي، نا الحارث ابن أبي أُسامة، نا علي بن محمّـد بن سيف، قال:
لمّا اشتدّ بلاء عبـد الرحمن بن أُمّ الحكم على أهل الكوفة، قال عبـد الله بن همّام السَّلُولي شعراً، وكتبه في رقاع، وطرحها في مسجد الجامع:
أَلاَ أبلغْ معاويةَ بن صخر *** فقد خرب السوادُ ولا سوادا
أرى العمّال أفتـتنا علينا *** بعاجلِ نفعهم ظلموا العبادا
فهل لك أن تُدَارَك ما لدينا *** وتدفعَ عن رعيّتك الفسادا
وتعزل تابعاً أبداً هواه *** يخرّبُ مِن بَلادته البِلادا
إذا ما قلتُ: أقصر عن مداه *** تمادى في ضلالته وزَادا
فبلغ الشعر معاوية فعزله»(3).
وذكر ابن عساكر وابن الأثير بترجمته، وكذا المؤرّخون ـ كالطبري وابن الجوزي وابن الأثير ـ في حوادث السنة 58، أنّ عبـد الرحمن أساء السـيرة في أهل الكوفة فطردوه، قالوا:
«استعمل معاوية ابن أُمّ الحكم على الكوفة، فأساء السيرة فيهم، فطردوه، فلحق بمعاوية وهو خاله، فقال له: أُولّيك خيراً منها مصر; فولاّه، فتوجّه إليها وبلغ معاوية بن حُدَيج السَّكُوني الخبر، فخرج فاستقبله على مرحلتين من مصر، فقال: ارجع إلى خالك، فلعمري لا تسير فينا سـيرتك في إخواننا من أهل الكوفة.
قال: فرجع معاوية، وأقبل معاوية بن حُدَيج وافداً، وكان إذا جاء قُلِّسـتْ(4) له الطريق ـ يعني ضُربت له قباب الريحان ـ، قال: فدخل على معاوية وعنده أُمّ الحكم، فقالت: من هذا يا أمير المؤمنين؟
قال: بَخ، هذا معاوية بن حُدَيج.
قالت: لا مرحباً به، تسمع بالمعيدي خيرٌ من أن تراه(5).
فقال: على رِسْلك يا أُمّ الحكم، أمَا والله لقد تزوّجتِ فما أكرمتِ، وولدتِ فما أنجبتِ، أردت أن يلي ابنك الفاسق علينا، فيسيرُ فينا كما سار في إخواننا من أهل الكوفة، ما كان الله ليرى ذلك، ولو فعل لضربناه ضرباً يصامي منه، وإن كان ذاك الجالس.
فالتفت إليها معاوية فقال: كُـفّي»(6).
(1) انظر: تاريخ دمشق 35 / 53 ـ 54 رقم 3856، الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 6 / 55 رقم 1699، تاريخ الطبري 3 / 252، الكامل في التاريخ 3 / 358، أُسد الغابة 3 / 333 رقم 3284 و ص 365 رقم 3339، البداية والنهاية 8 / 66.
(2) المنتظم 4 / 110 ـ 113 حوادث سـنة 58 هـ.
(3) تاريخ دمشق 35 / 51 ـ 52.
(4) التقليـس: اسـتقبال الولاة عند قدومهم بأصناف اللهو، كالضرب بالدفّ والغناء; انظر: لسان العرب 11 / 278 مادّة «قلس».
وضرب قباب الريحان ضرب من ضروب الاسـتقبال.
(5) مثلٌ يُضرب لمن خبره خير من مرآه، أوّل من قاله المنذر ابن ماء السماء، وقيل: النعمان بن المنذر.
انظر: جمهرة الأمثال ـ للعسكري ـ 1 / 226، مجمع الأمثال ـ للميداني ـ 1 / 227 رقم 655.
(6) تاريخ دمشق 35 / 52 ـ 53، تاريخ الطبري 3 / 252 ـ 253، المنتظم 4 / 110 ـ 111، الكامل في التاريخ 3 / 358 ـ 359، البداية والنهاية 8 / 66 ـ 67.