2 ـ التبعيـد
وحتّى بنو أُمّية، كانوا لا يتوهّمون وصول يزيد إلى الحكم يوماً من الأيّام، بل لقد كان فيهم من يمنّي نفسه بذلك.
بل ظاهر ما جاء في تاريخ ابن عساكر(1) من أنّه: «كان أهل المدينة عبـيدهم ونساؤهم يقولون: والله لا ينالها يزيد حتّى ينال هامه الحديد، إنّ الأمير بعده سعيد(2)».
هو أنّ هذا كان رأي أهل المدينة كلّهم.
ثمّ ذكروا أنّ سعيداً طرح الموضوع على معاوية بصراحة، وأنّه قد طلب منه أن يرشّحه للحكم بدلا عن يزيد.
قال ابن كثير: «وقد عاتب معاويةَ ـ في ولايته يزيد ـ سعيدُ بن عثمان ابن عفّان، وطلب منه أنْ يولّيه مكانه، وقال له سعيد في ما قال:
إنّ أبي لم يزل معتنياً بك حتّى بلغت ذروة المجد والشرف، وقد قدّمتَ ولدك علَيَّ وأنا خير منه أباً وأُمّـاً ونفساً.
فقال له: أمّا ما ذكرت من إحسان أبيك إليَّ فإنّه أمر لا ينكر. وأمّا كون أبيك خيراً من أبيه فحقٌّ، وأُمّك قرشـية وأُمّه كلبية فهي خير منها. وأمّا كونك خيراً منه، فوالله لو ملئت إليّ الغوطة رجالا مثلك لكان يزيد أحبّ إليَّ منكم كلّكم»(3).
وقد روى ابن خلّكان كلام سعيد بألفاظ أُخرى تهمّنا في المباحث الآتية، قال:
«إنّ سعيد بن عثمان بن عفّان ـ رضي الله عنه ـ دخل على معاوية بن أبي سفيان، فقال له: علام جعلت ولدك يزيد وليّ عهدك دوني؟! فوالله لأبي خير من أبيه، وأُمّي خير من أُمّه، وأنا خير منه، وقد ولّيناك فما عزلناك، وبنا نلت ما نلت.
فقال له معاوية: أمّا قولك… وأمّا قولك: إنّـكم ولّيتموني فما عزلتموني، فما ولّيتموني، وإنّما ولاّني من هو خير منكم عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، فأقررتموني، وما كنت بئس الوالي منكم، لقد قمت بثأركم، وقتلت قتلة أبيكم، وجعلت الأمر فيكم، وأغنيت فقيركم، ورفعت الوضيع منكم.
فكلّمه يزيد في أمره فولاّه خراسان»(4).
وقال ابن عساكر: إنّ معاوية عزله عن خراسان في سـنة 57(5).
وقال البلاذري: «كان معاوية قد خاف سعيداً على خلعه، ولذلك عاجله بالعزل»(6).
قال ابن عساكر: «قدم سعيد بن عثمان المدينة، فقتله غلمان جاء بهم من الصَّـغْـد، وكان معه عبـد الرحمن بن أرطاة بن سيحان حليف بني حرب بن أُميّـة»(7).
قالوا: ثمّ قتل الغلمانُ بعضُهم بعضاً فلم يبق منهم أحد(8).
هذا بالنسبة إلى سعيد بن عثمان بن عفّان باختصار، وقضيّته غامضة جـدّاً.
وكذلك كان موقف غيره من بني أُميّة، كمروان بن الحكم:
روى ابن قـتيبة والمسعودي، أنّ مروان بن الحكم كتب إلى معاوية: «إنّ قومك قد أبوا إجابتك إلى بيعتك ابنك، فَـارْأَ رأيك».
فلمّا بلغ معاوية كتابه عرف أنّ ذلك من قبله، فكتب إليه يأمره أنْ يعتزل عمله، ويخبره أنّه قد ولّى المدينة سعيد بن العاص(9).
ثمّ إنّ مروان أقبل في وفد كثير من قومه حتّى نزل دمشق، ودخل على معاوية، وجعل يخطب بين يديه إلى أن قال:
«وأيم الله، لولا عهود مؤكّدة ومواثيق معقّدة، لأقمت أود وليّها، فأقم الأمر يا ابن أبي سفيان، وأهدئ من تأميرك الصبيان، واعلم أنّ لك في قومك نظراً، وأنّ لهم على مناوأتك وزراً».
فغضب معاوية من كلام مروان غضباً شديداً، ثمّ كظم غيظه، وأخذ بيده وتكلّم معه، ورحّب به وطيّب خاطره، ووعده بالأموال له ولأهل بيتـه(10).
(1) تاريخ دمشق 21 / 223.
(2) أي: سعيد بن عثمان بن عفّـان، الذي عزله معاوية سـنة 57 هـ عن خراسان، وولاّها عبيـد الله بن زياد بعدما كان قد ولاّها إيّـاه قبل عزله عنها بسـنة واحدة.
انظر: تاريخ دمشق 21 / 223.
(3) البداية والنهاية 8 / 65 حوادث سـنة 56 هـ.
(4) وفيات الأعيان 6 / 348 رقم 821 ترجمة يزيد بن مفرغ الحميري; وانظر: الأغاني 18 / 270، الكامل في التاريخ 3 / 355.
(5) تاريخ دمشق 21 / 223، وانظر: تاريخ خليفة بن خيّاط: 170، مرآة الجنان 1 / 104، شذرات الذهب 1 / 61.
(6) فتوح البلدان 403.
(7) تاريخ دمشق 21 / 227، وانظر: نسـب قريـش: 111، الأغاني 1 / 42 و ج 2 / 246.
(8) جواهر التاريخ 2 / 341.
(9) عزله سـنة 58 هـ; وفي تاريخ الطبري 3 / 58 أنّـه لمّا عزل مروان عن المدينة ولّى عليها الوليد بن عتبة بن أبي سفيان.
(10) انظر: الإمامة والسياسة: 197 ـ 199، مروج الذهب 3 / 28 ـ 29.