المقـدّمة الخامسـة
في الإعلان عن العهد ليزيد
لقد كان معاوية يفكّر في الولاية ليزيد من بعده منذ حياة الإمام الحسـن عليه السلام، وقد نصّ على ذلك كبار العلماء، نكتفي بكلام الحافظ ابن عبـد البرّ القرطبي إذ قال: «وكان معاوية قد أشار بالبيعة إلى يزيد في حياة الحسـن، وعرّض بها، ولكنّه لم يكشفها، ولا عزم عليها إلاّ بعد موت الحسـن»(1)@.
والشواهد على ذلك كثيرة، ونكتفي كذلك بذكر واحد منها، وهو خبر دخول الأخوين الأنصاريّين «عمارة بن عمرو» و «محمّـد بن عمرو» عليه، وكلامهما معه عن الخليفة من بعده، وقد روى ابن عساكر هذا الخبر بترجمة كلا الرجلين من (تاريخه)، وهذا نصّ الخبر بترجمة «عمارة»، قـال:
«دخل على معاوية فقال: يا أمير المؤمنين! قد كبرت سنّك ودقّ عظمك واقترب أجلك، فأحببت أن أسألك عن رجال قومك وعن الخليفة من بعدك.
وكان معاوية يشتدّ عليه أنْ يقال: كبرت سنّك، أو يشكُّ في الخليفة أنّـه يزيد.
فقال معاوية: نعيت لأمير المؤمنين نفسه، وسألته عن خبيّ سرّه، وشككت في الخليفة بعده؟!
أخرجوه…».
ثمّ قال: «أدخلوه! فدخل، فقال: سـألتني عن رجال قومي، فأعظمهم حلماً الحسـن بن عليّ، وفتاهم عبـد الله بن عامر، وأشدّهم خبّاً هذا الضبّ ـ يعني ابن الزبير ـ، والخليفة بعدي يزيد.
قال له أبو أيّوب الأنصاري: اتّق الله ولا تسـتخلف يزيد.
قال: امرؤ ناصح، وإنّما أشرت برأيك; وإنّما هم أبناؤهم، فابني أحبُّ إليَّ من أبنائهم»(2)@.
وقد كـثّف جهوده بعد اسـتـشهاد الإمام عليه السلام، بشتّى الأساليب، فقد روى في «العقد الفريد» عن أبي الحسـن المدائني، أنّ في سنة 53 قرأ معاوية على الناس عهداً مفتعلا فيه عقد الولاية ليزيد بعده، قال: «وإنّما أراد أنْ يسهّل بذلك بيعة يزيد!
فلم يزل يروض الناس لبيعته سبع سنين، ويشاور، ويعطي الأقارب ويداني الأباعد، حتّى اسـتوثق له من أكـثر الناس…»(3)@.
وذكر المؤرّخون ـ في وقائع سنة 56 ـ دخول المُغِيْرَة بن شعبة على معاوية وتشجيعه إيّاه على العهد ليزيد، وذلك لمّا أراد معاوية عزل المُغِيْرَة عن الكوفة، فانتهى الأمر إلى إبقائه عليها، فقدم الكوفة وجعل يذاكر شيعة بني أُميّة وغيرهم، وأوفد جماعةً مع ابنه موسى إلى معاوية يطلبون منه الإعلان عن العهد ليزيد، فقال لهم: لا تعجلوا بإظهار هذا وكونوا على رأيكم; ثمّ قال لموسى: بكم اشترى أبوك من هؤلاء دينهم؟ قال: بثلاثين ألفاً; فقال: لقد هان عليهم دينهم!
قالوا: فكتب معاوية بذلك إلى زياد بن أبيه يستشيره ـ وزياد إذ ذاك على البصرة ـ، فكتب إليه زياد يشير عليه بأنْ لا يعجل، لأنّه كان يتخوّف من نفرة الناس، وقدم على يزيد من قبله عبيد بن كعب النميري يأمره بالكـفّ عمّا كان يصنع…(4)@.
وسـيأتي ذِكر عاقبة أمر زياد بسـبب هذا الموقف.
وإذا ثبت أنّ معاوية كان يفكّر منذ زمن الإمام الحسـن عليه السلام في العهد ليزيد من بعده، ظهر أنّ ما يقال من أنّ المُغِيْرَة بن شعبة هو الذي اقترح عليه ذلك غير صحيح.
نعم، قد اقترح عليه الإعلان الرسمي عمّا كان يريد، ولعلّه كان بالتنسـيق معه، وهو منهما غير بعيـد!
(1) الاسـتيعاب 1 / 391.
(2) تاريخ دمشق 43 / 319 ـ 320، مختصر تاريخ دمشق 18 / 198 رقم 142، وانظـر: تاريخ دمشق 55 / 5 ـ 6، مختصر تاريخ دمشق 23 / 141 ـ 142 رقم 168.
(3) العقد الفريد 3 / 357.
(4) انظر حوادث سنة 56 في: تاريخ الطبري 3 / 248، الكامل في التاريخ 3 / 350 ـ 351، تاريخ ابن خلدون 3 / 19 ـ 20، وغيرها.