4 ـ شفاعة الأئمّة عليهم السّلام
مقام الشّفاعة الذي خصَّ الله تعالى الأئمّة به هو مقام جليل ومنصب عظيم، وهو موضوع من مواضيع الآية الشريفة من قوله تعالى: (وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضى)(1).
فلو أن شخصاً كانت له حاجة متعسّرة عند أحد كأمير أو وزير أو رئيس، ويطمح أن يقضيَها له، فلا مناص له من توسيط طرف ثالث، له من المكانة والعزّة بمكان تتناسب ومستوى حاجته، ما يؤهّله أن يشفع له عند الرئيس أو الأمير، وإلاّ فإن حاجته مردودة. فمن له حاجة عند الله جلّ جلاله، ويرجو قضائها وإنجازها، فما عليه إلاّ أنّ يقدّم الوسيلة والواسطة لكي يشفع له فيها، ولابدّ وأن يكون هذا الشفيع ذا منزلة كريمة ومقام محمود عند الله تبارك وتعالى.
فالنبيّ والأئمّة هكذا، وهم لا يشفعون إلاّ لمن يعلمون حق اليقين أنه موضع رضى الله سبحانه، فهم لا يشفعون إلاّ لمن ارتضى، وذلك لشدّة ارتباطهم بالله تعالى وعلمهم بما يرضاه وما لا يرضاه.
فإذا أحجموا عن الشفاعة في قضيّة معيّنة فذلك يعني أنهم عالمون بعدم أهليّتها لرضا الباري تعالى، لأنهم لا يسبقونه في أمر لا يرتضيه، فعليه، لا يطلبون منه تعالى إمضاء ذلك الأمر. وهذا ـ والله ـ لشدّة رسوخهم في العبوديّة له فهم (مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ).
فالمقام مقام عبوديّة مطلقة، لا اُلوهيّة ولا بنوّة لله، وخطاب الآية خطاب تقريع وتفنيد لادّعاءات اليهود والنصارى الباطلة السقيمة أن جلعوا للرحمن ولداً، حينما رأوا من النبي عيسى عليه السّلام أُموراً خارقة وفوق قدرة البشر، فالذي صدر منه كان (بِإِذْنِ اللّهِ) وببركة عبوديّته له، وقد صدر عن الأئمّة المعصومين ما صدر عن النبي عيسى، دون أن يدّعوا الربوبيّة ولن يدّعوها، قال الله تعالى: (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزيهِ جَهَنَّمَ).
روى الشيخ أبو جعفر الطوسي طيب الله ثراه في مصباح المتهجّد خطبة لأمير المؤمنين عليه السّلام ـ وهي باعتقادنا قطعيّة الصّدور ـ قائلا:
«إتفق في بعض سني أمير المؤمنين عليه السّلام الجمعة والغدير، فصعد المنبر على خمس ساعات من نهار ذلك اليوم، فحمد الله وأثنى عليه وقال:
وإن الله تعالى اختصّ لنفسه بعد نبيّه صلّى الله عليه وآله من بريّته خاصّةً، علاهم بتعليته وَسَما بهم إلى رتبته، وجعلهم الدعاة بالحقّ إليه والأدلاّء عليه، لقرن قرن وزمن زمن أنشأهم في القدم قبل كلّ مذروٍّ ومبروٍّ، وأنواراً أنطقها بتحميده، وألهمها شكره وتمجيده، وجعلها الحجج على كلّ معترف له بملكة الربوبيّة وسلطان العبوديّة، واستنطق بها الخرسات بأنواعِ اللّغات، بخوعاً له بأنه فاطر الأرضين والسّماوات، وأشهدهم خلقه وولاّهم ما شاء من أمره، جعلهم تراجم مشيّته وألسن إرادته، عبيداً لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، ولا يشفعون إلاّ لمن ارتضى، وهم من خشيته مشفقون…»(2).
وما أروع ما عبّر عنه استاذنا المرحوم الميرزا كاظم التبريزي في تعبير مستوحى من «تراجمة وحيه» بقوله: إن حنجرة الأئمّة عليهم السّلام، مذياع الله تعالى. فكلّما كان ما يخرج من هذه الحنجرة هو كلام الله سبحانه، وهل ذلك إلاّ العصمة؟ فهم عليهم السّلام ألسنة الإرادة الإلهية، لكنّهم عبيده الذين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، وهو سبحانه (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْديهِمْ وَما خَلْفَهُمْ).
وَ رَحْمَةُ اللَّهِ وَ بَرَكَاتُهُ
(1) سورة الأنبياء، الآية: 28.
(2) مصباح المتهجد: 735، مصباح الكفعمي: 696، بحار الأنوار 94 / 113.