من قضايا الأئمّة في سبيل الدعوة إلى الله
عن الفضل بن يونس قال: كان ابن أبي العوجاء من تلامذة الحسن البصري فانحرف عن التوحيد، فقيل له: تركت مذهب صاحبك ودخلت فيما لا أصل له ولا حقيقة. فقال: إن صاحبي كان مخلّطاً، كان يقول طوراً بالقدر وطوراً بالجبر وما أعلمه اعتقد مذهباً دام عليه. قال: ودخل مكة تمرداً وإنكاراً على من يحج، وكان يكره العلماء مسائلته إياهم ومجالسته لهم لخبث لسانه وفساد سريرته، فأتى جعفر بن محمّد عليه السّلام فجلس إليه في جماعة من نظرائه.
ثم قال له: يا أبا عبدالله، إن المجالس أمانات ولابدّ لكلّ من به سعال أن يسعل أفتأذن لي في الكلام؟
فقال أبو عبدالله عليه السّلام: تكلّم بما شئت.
فقال: إلى كم تدوسون هذا البيدر وتلوذون بهذا الحجر وتعبدون هذا البيت المرفوع بالطوب والمدر وتهرولون هرولة البعير إذا نفر، إن من فكّر في الأمر قد علم أن هذا فعل أسّسه غير حكيم ولا ذي نظر، فقل فإنك رأس هذا الأمر وسنامه وأبوك اُسّه ونظامه.
فقال أبو عبدالله عليه السّلام: إن من أضلّه الله وأعمى قلبه استوخم الحق فلم يستعذبه، صار الشيطان وليّه يورده مناهل الهلكة ثم لا يصدره، وهذا بيت استعبد الله تعالى به خلقه ليختبر به طاعتهم في إتيانه، فحثّهم على تعظيمه وزيارته وجعله محلّ أنبيائه وقبلة للمصلّين له، فهو شعبة من رضوانه وطريق يؤدّي إلى غفرانه منصوب على استواء الكمال ومجتمع العظمة والجلال، خلقه الله تعالى قبل دخول الأرض بألفي عام وأحق من أطيع فيما أمر وانتهى عمّا نهى عنه وزجر، الله المنشئ للأرواح والصّور.
فقال ابن أبي العوجاء: ذكرت يا أبا عبدالله فأحلت على غائب.
فقال: ويلك، وكيف يكون غائباً من هو في خلقه شاهد وإليهم أقرب من حبل الوريد، يسمع كلامهم ويرى أشخاصهم ويعلم أسرارهم، وإنما المخلوق الذي إذا انتقل عن مكان اشتغل به مكان وخلا منه مكان، فلا يدري في المكان الذي صار إليه ما حدث في المكان الذي كان فيه، فأما الله العظيم الشأن الملك الديّان، فإنه لا يخلو منه مكان ولا يشتغل به مكان، ولا يكون إلى مكان أقرب منه إلى مكان، والذي بعثه بالآيات المحكمة والبراهين الواضحة وأيّده بنصره واختاره لتبليغ رسالاته صدّقنا قوله بأن ربّه بعثه وكلّمه.
فقام عنه ابن أبي العوجاء فقال لأصحابه: من ألقاني في بحر هذا، سألتكم أن تلتمسوا إلي خمرة فألقيتموني إلى جمرة.
قالوا: ما كنت في مجلسه إلا حقيراً؟
قال: إنه ابن من حلق رؤوس من ترون»(1).
* وتلك قضيّة اُخرى له رواها الإمام الحسن بن علي بن محمّد العسكري عليهم السّلام في قول الله عزّ وجلّ:
(بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ).
فقال: الله هو الّذي يتألّه إليه عند الحوائج والشدائد كلُّ مخلوق عند انقطاع الرجاء من كلّ من دونه وتقطّع الأسباب من جميع من سواه، تقول: بسم الله أي أستعين على أُموري كلّها بالله الّذي لا تحقُّ العبادة إلاّ له، المغيث إذا استغيث، والمجيب إذا دعي.
وهو ما قال رجل للصّادق عليه السّلام: يا ابن رسول الله دلّني على الله ما هو؟ فقد أكثر عليّ المجادلون وحيّروني، فقال له: يا عبدالله، هل ركبت سفينةً قطّ؟ قال: نعم، قال: فهل كسر بك حيث لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك؟ قال: نعم، قال: فهل تعلّق قلبك هنالك أنّ شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلّصك من ورطتك؟ قال: نعم، قال الصّادق عليه السّلام: فذلك الشيء هو الله القادر على الإنجاء حيث لا منجي، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث(2).
* وتلك قضيّة الإمام الحسن عليه السّلام مع الرجل الشّامي، فقد روى ابن شهرآشوب السروي:
ومن حلمه ما روى المبرّد وابن عائشة أنّ شاميّاً رآه راكباً فجعل يلعنه والحسن لا يردّ، فلمّا فرغ أقبل الحسن عليه السّلام فسلّم عليه وضحك فقال: أيّها الشيخ أظنّك غريباً، ولعلّك شبّهت; فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا أحملناك، وإن كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت عرياناً كسوناك، وإن كنت محتاجاً أغنيناك، وإن كنت طريداً آويناك، وإن كان لك حاجة قضيناها لك، فلو حرّكت رحلك إلينا، وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك كان أعود عليك، لأنّ لنا موضعاً رحباً وجاهاً عريضاً ومالاً كثيراً.
فلمّا سمع الرّجل كلامه، بكى ثمّ قال: أشهد أنّك خليفة الله في أرضه، الله أعلم حيث يجعل رسالته، كنت أنت وأبوك أبغض خلق الله إليّ والآن أنت أحبّ خلق الله إليّ. وحوّل رحله إليه، وكان ضيفه إلى أن ارتحل، وصار معتقداً لمحبّتهم(3).
* وتلك كلماتهم في حلم الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السّلام:
قال الخطيب البغدادي: وكان سخيّاً كريماً، وكان يسمع عن الرجل ما يؤذيه، فيبعث إليه بصرّة فيها ألف دينار(4).
وقال ابن الجوزي: كان يدعى العبد الصالح، وكان حليماً كريماً، إذا بلغه عن رجل ما يؤذيه بعث إليه بمال(5).
وقال ابن حجر المكي: سمّي الكاظم لكثرة تجاوزه وحلمه(6).
وقال ابن طلحة الشافعي: ولفرط حلمه وتجاوزه عن المعتدين عليه دُعي كاظماً، وكان يجازي المسئ بإحسانه إليه، ويقابل الجاني بعفوه عنه…(7).
ومن قبيل هذه الإحتجاجات الدالّة على إحاطتهم بالعلوم، والقضايا الدالّة على سعة حلمهم، كثير، أوردته كتب الحديث والتاريخ، فكانت طرق الأئمّة عليهم السّلام في هداية أفراد المجتمع تختلف حسب تركيبتهم الذهنية والاجتماعية والمؤثرات النفسيّة والعقليّة التي يتعاملون معها.
ومن شاء فليراجع كتاب التوحيد للشيخ الصدوق، وأصول الكافي والاحتجاج للطبرسي وغيرها من المصادر.
ومنه يُعلم مقام وشأنيّة هؤلاء الأئمّة المطهّرين عليهم السّلام في دعوة المجتمعات إلى الله سبحانه وتعالى، وهدايتها وسوقها في الجادة الوسطى والسبيل الحق، واِلاّ، فإنّ تحمّل الكلام البذيء والصبر على الاعتداءات والإساءات من قبل الجهلة السفهاء والمغفّلين، ليس بمقدور كلّ شخص غيرهم عليهم السّلام، وهم في محلّ المقدرة والاستطاعة على ردّها وكسب الجولة لصالحهم، إلاّ أنهم آثروا الخُلُقَ الذي أراده الله لهم وارتضاه منهم، حتى أثمر هذا الصبر عن هداية اولئك المعتدين المغفّلين الذين تطاولوا عليهم.
فالمدرسة التي أسّسها الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السّلام تجاوزت حدود هداية الأفراد، لتتِّسع إلى مستوى هداية الامم والمجتمعات على اختلاف مشاربها ومعتقداتها.
فالآلاف الأربعة من العلماء الذين كانوا يأوون إلى منبره عليه السّلام هم من جنسيات مختلفة ومناطق متفاوتة من بقاع العالم الإسلامي آنذاك، وكان كلّ شخص من هؤلاء العلماء التلامذة يرجع إلى قومه حاملا فكر وتعاليم وعقائد أهل البيت عليهم السّلام، ولو أن الأعداء المتسلّطين آنذاك كانوا قد أمهلوا الأئمّة لكانت الأُمور على غير ما عليه الآن. ومن هنا يتبيّن سبب بقاء ودوام تعاليمهم عبر القرون المتطاولة من التاريخ، وكذلك بسبب ما كانوا يحملونه بين جوانحهم من خصال وخصوصيات النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله كاملة عدا النبوة بما جاءه من الخطاب الإلهي:
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنّا أَرْسَلْناكَ شاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذيرًا * وَداعِيًا إِلَى اللّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجًا مُنيرًا)(8).
فهم ورثته في كلّ المهام الرسالية وهو خاتم الأنبياء.
(1) علل الشرائع 2 / 403.
(2) كتاب التوحيد: 231، معاني الأخبار: 4.
(3) مناقب آل أبي طالب 3 / 184.
(4) تاريخ بغداد 14 / 29.
(5) صفة الصفوة 2 / 184.
(6) الصواعق المحرقة: 121.
(7) مطالب السئول: 447.
(8) سورة الأحزاب: 45 و 46.