من عرفهم فقد عرف الله
إنه لا يتسنّى لمن ينشد معرفة الله ـ أصلها أو مرتبة من مراتبها ـ دون الرجوع إلى المحلّ المجعول على نحو التعيين للمعرفة، والمراد من «المحلّ» هو ذوات الأئمّة وأشخاصهم، لا المكان الذي يتواجدون فيه، ولا خصوص أقوالهم الصّادرة عنهم في باب معرفة الله سبحانه وتعالى.
ومن هنا، فإن من عرف الأئمّة فقد عرف الله، لا بمعنى أنّ الله حالٌّ فيهم، فإنه كفر، بل لأنّهم أسماء الله الحسنى التي بها يعرف، فعن أبي عبدالله الصّادق عليه السّلام في قوله تعالى:
(وَلِلّهِ الاَْسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها)(1).
نحن ـ والله ـ الأسماء الحسنى التي لا يقبل الله من العباد عملاً إلاّ بمعرفتنا(2).
وعنه عليه السّلام أنه قال:
من عبدالله بالتوهّم فقد كفر، ومن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر، ومن عبد الاسم والمعنى فقد أشرك، ومن عبد المعنى بإيقاع الأسماء عليه بصفاته التي وصف بها نفسه، فعقد عليه قلبه ونطق به لسانه في سرائره وعلانيته، فأولئك أصحاب أمير المؤمنين حقّاً(3).
إنّ الأئمّة عباد الله المكرمون ومخلوقاته المصطفون، ولكن الله إنما يعرف بمعرفتهم، كما قال مولانا أبو عبدالله الحسين الشهيد عليه السّلام:
«أيها الناس، إن الله جلّ ذكره ما خلق العباد إلاّ ليعرفوه، فإذا عرفوه عبدوه، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة ما سواه.
فقال له رجل: يا بن رسول الله، بأبي أنت وأمّي، فما معرفة الله؟
قال: معرفة أهل كلّ زمان أمامهم الذي تجب عليهم طاعته»(4).
وصدر هذه الرواية يؤيّد تفسير (يَعْبُدُونِ) في قوله تعالى:
(وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالاِْنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ)(5) بـ«ليعرفون».
وقوله عليه السّلام: «ما خلق الله العباد إلاّ ليعرفوه» وعبارته دالّة على الحصر، ظاهر في كون العبادة فرع المعرفة ـ كما ذكرنا من قبل ـ ، ومن الواضح أنه كلّما ازدادت المعرفة ازدادت العبادة والطّاعة، وقد جاءت الزيارة الجامعة للكشف عن علوّ مقامات الأئمّة عليهم السّلام في خصلتين: المعرفة والطاعة.
لكنهم كلّما حباهم الله تعالى بقرب منه ومقام رفيع عنده ازدادت عبوديّتهم له، فتدبّر في ما سيأتي في الزيارة من:
«عصمكم الله من الزلل وآمنكم من الفتن وطهّركم من الدنس وأذهب عنكم الرجس وطهّركم تطهيراً. فعظّمتهم جلاله وأكبرتم شأنه ومجّدتم كرمه وأدمتم ذكره ووكّدتم ميثاقه وأحكمتم عقد طاعته…».
وتأمّل في تفرّع «فعظّمتم…» إلى قوله «وأحكمتم عقد طاعته» «على «عصمكم آلله من الزلل…» و سيأتي بيانه في محلّه إن شاء الله.
لقد بلغ الأئمّة بعد النبي صلّى الله عليه وآله في المعرفة والطّاعة ما لم يبلغه أحدٌ من العالمين، فكانوا ـ هم دون غيرهم ـ الذين من عرفهم فقد عرف الله… ولذا ورد عنهم أنه:
بنا عرف الله وبنا عبد الله(6).
فهم السّبب لمعرفة الله وعبادته، كما أن أقوالهم وتعاليمهم هي السّبب لذلك… .
وهل ترى في هذا الذي قلناه من غلوّ؟
وعلى الجملة، فإنّ بواسطة الإمام نعرف الله… ولذا قال أبو عبدالله عليه السّلام:
الإمام عَلَمٌ فيما بين الله عزّ وجلّ وبين خلقه، فمن عرفه كان مؤمناً ومن أنكره كان كافراً(7).
لأن من عرف الإمام كان مؤمناً بالله، وإذا آمن به عبده، ومن أنكره فقد أنكر الله، ومن أنكره كان كافراً.
وقد تقدّم أنّ الأئمّة من أهل البيت «أئمّة الهدى» و«مصابيح الدجى» و«أعلام التقى» حيث تجلّى بشكل واضح حقيقة أن الإمام هو المنصوب من قبل الله لأن يكون الواسطة بينه وبين خلقه والدليل عليه، من تبعه عرف الله وعبده ونجا، ومن تخلّف عنه هلك وغوى.
إنّ أئمّة أهل البيت أعلام وأدلاّء وهداة لكافّة الخلائق، ولا ينحصر نور هدايتهم بالشيعة ولا بالمسلمين فقط، وإنما هم هداة للخلق أجمعين، لأنهم «حجج الله على أهل الدنيا والآخرة والأولى»، وليس لأحد بعد ذلك حجة على الله، بل الحجة التامّة لله على الخلق من الأوّلين والآخرين.
(1) سورة الأعراف، الآية: 180.
(2) الكافي 1 / 111.
(3) الكافي 1 / 87 .
(4) علل الشرائع 1 / 9، ح 1، تفسير نور الثقلين 5 / 132، ح 58، تفسير الصافي 5 / 75.
(5) سورة الذاريات، الآية: 56.
(6) بحار الأنوار 46 / 202.
(7) كمال الدين 2 / 412.