مقتضى القاعدة نصب الحجة ثم الاحتجاج به
كذلك الله سبحانه، فإنه يعامل العبد بمقتضى قاعدة اللّطف، فيقدّم النّبي أو الإمام كبرهان أو شاهد على أفعال وأقوال العبد، واِذا لزم الأمر فإنّ جوارح العبد تنطق بإذن خالقها تنطق وتشهد عليه(1). وكلّ ذلك لكي يعي الإنسان ويستحيي من ربه وخالقه، فهو بالرغم من علمه وإحاطته بكلّ ما صدر من العبد، يحاججه حسب قاعدة اللّطف، فيحتج عليه بإرسال الرسل وإيضاح الطريق وإرشاده وتعليمه.
إن مقتضى قاعدة اللّطف توفر ثلاثة أُمور أساسيّة:
1 ـ أن يشرّع الله تعالى شريعة يصلح فيها أُمور الفرد والمجتمع، وينيط مهمّة إبلاغها بشخص أمين.
2 ـ أن يكون المُؤتمَن على هذه الشريعة على درجة عالية من المؤهلات لتحمل هذه المسؤولية. وهو الرسول.
3 ـ أن ينصب بعد الرّسول من يقوم مقامه في الهداية والتزكية والتعليم، حتى لا تخلو الأرض من حجة له على العباد. وهو الإمام.
وبتحقق هذه الأُمور الثلاثة تتم قاعدة اللّطف، ويصحّ الاحتجاج على المكلّفين بأن يقول لهم:
ألم أرسل شريعة؟
بلى، أرسلت.
ألم أبعث لكم محمّداً صلّى الله عليه وآله ليبلّغكم بها ويدعوكم إلى المعرفة والعمل والطاعة؟
بلى، بعثت، وقد بلّغ وأدّى ما عليه.
لماذا لم تستجيبوا له وتطيعوه؟
ألم أنصب من بعده حججاً يقومون مقامه في وظائفه؟
بلى، نصبت، وما قصّروا.
إذن، من المقصّر؟
هذا هو الإحتجاج.
وفي غير هذه الصّورة، ستكون المحاسبة قبيحة، والعقل يحكم بقبح العقاب من دون بيّنة، وهو ما يقرّه الشرع وهو قوله تعالى:
(وَما كُنّا مُعَذِّبينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(2).
فيتبيّن من هنا شأن ومنزلة الأئمّة المعصومين عليهم السّلام في هذا العالم.
إنّه لولا العصمة لما صلحوا لأنْ يكونوا «حججاً لله» على جميع أهل الأرض.
إنّ كلّ عالم متّقي، بل كلّ فرد من أهل التقوى صالحٌ لأنْ يحتجّ بعقيدته وبأعماله على من يعرفه، ولذا يلقّب العالم الصّالح بـ«حجة الإسلام»، ولكنّ المعصوم حجّة لله على جميع الخلائق، ولا يصحّ التعبير بـ«حجة الله» عن أحد إلاّ المعصوم.
وبناءً على ما ذكر، فإنّ صلاح الفرد والمجتمع منوط بثلاثة ركائز:
الأولى: ما هو الواجب على الله، وهو تشريع الشريعة وبعث الرسول ونصب الإمام.
والثانية: ما هو الواجب على النبي والإمام، وهو تحمّل المسئوليّة.
والثالثة: ما هو الواجب على المكلّفين، وهو الاتّباع والطّاعة المطلقة للنبي والإمام.
أمّا الله سبحانه، فقد فعل ما كان عليه، وذلك مقتضى لطفه بعباده.
وكذلك النبيّ والأئمّة، فقد قاموا بما كان عليهم من وظيفة الهداية والتزكية والتعليم.
وبقي على الناس أن يعملوا بالشريعة في اصولها وفروعها، ويطيعوا الأئمّة في أوامرهم ونواهيهم، فما كان من ضلال أو فساد في الأفراد أو المجتمع، فإنّما هو بسبب تقصيرهم، وليس عائداً إلى الله وأوليائه… روى بريد بن معاوية عن أبي عبدالله الصادق عليه السّلام أنه قال:
«ليس لله على خلقه أن يعرفوا قبل أنْ يعرّفهم، وللخلق على الله أنْ يعرّفهم، ولله على الخلق إذا عرّفهم أن يقبلوه»(3).
نعم، قد عرّف الله نفسه للخلق، وبعث الأنبياء ونصب الأوصياء لهداية الخلق، قال سبحانه:
(لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)(4).
بل:
(لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَة وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَة)(5).
وحينئذ:
(فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ)(6).
وقد سُئل أبو عبدالله الصّادق عليه السّلام عن هذه الآية فقال:
إنّ تبارك وتعالى يقول للعبد يوم القيامة:
عبدي! أكنت عالماً؟
فإنْ قال: نعم، قال له:
أفلا عملت بما علمت؟
وإنْ قال: كنت جاهلاً، قال له:
أفلا تعلّمت حتى تعمل؟
فيخصمه، فتلك الحجة البالغة(7).
وتلخّص:
إنّ أصل وجود الأئمّة حجة الله.
وإنّ الله عزّ وجلّ يحتجّ بأقوال الأئمّة وأفعالهم على العباد… .
(1) وللمؤلّف رسالة مفردة في هذا الموضوع منتشرة ضمن سلسلة (إعرف الحق تعرف أهله).
(2) سورة الإسراء، الآية: 15.
(3) كتاب التوحيد: 412.
(4) سورة النساء، الآية: 165.
(5) سورة الأنفال، الآية: 42.
(6) سورة الأنعام، الآية: 149.
(7) البرهان في تفسير القرآن 2 / 482.