كلام الشيخ المجلسي في الغلوّ
وبعد ما ينقل الشيخ المجلسي بعض الروايات في الغلوّ، يعرّج على آراء بعض العلماء في الغلوّ فيقول:
قال الشيخ الصّدوق رحمه الله:
إعتقادنا في الغلاة والمفوّضة: أنهم كفّار بالله جلّ جلاله، وأنّهم شرّ من اليهود والنصارى والمجوس… .
وإعتقادنا في النبي والأئمّة عليهم السّلام أن بعضهم قتلوا بالسيف، وبعضهم بالسّمّ، وأن ذلك جرى عليهم في الحقيقة وأنهم ما شبّه أمرهم…»(1).
من هذا النصّ نعلم أن مثل هذا الكلام كانت تتناقله بعض الألسن أيضاً في تلك الأزمنة، فالقرآن الكريم ينقل لنا قصّة عيسى عليه السّلام في قوله تعالى:
(وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذينَ اخْتَلَفُوا فيهِ لَفي شَكّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْم إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللّهُ عَزيزًا حَكيمًا)(2).
وفي الواقع، فإن الأئمّة عليهم السّلام كان يُقتلون حقّاً، إذ كانوا بشراً يعتريهم الموت والحياة مثل سائر أفراد البشر، والغلو في هذا الأمر ممنوع.
ثم يسترسل شيخنا المجلسي في كلامه، فينقل كلام الشيخ المفيد ويعلّق عليه فيقول:
«إعلم أنّ الغلوّ في النبيّ والأئمّة عليهم السّلام إنما يكون بالقول بألوهيّتهم أو بكونهم شركاء لله في العبوديّة أو في الخلق والرزق، أو أن الله تعالى حلّ فيهم أو إتَّحد بهم و… القول بأنهم كانوا أنبياء… أو القول بأنّ معرفتهم تُغني عن جميع الطاعات، ولا تكليف معها بترك المعاصي. والقول بكلّ منها إلحاد وكفر وخروج عن الدين، كما دلّت عليه الأدلة العقليّة والآيات والأخبار السالفة وغيرها…»(3).
ثم يضيف بعد تعريفه للغلوّ قائلاً:
«ولكن أفرط بعض المتكلّمين والمحدّثين لقصورهم عن معرفة الأئمّة، وعجزهم عن إدراك غرائب أحوالهم وعجائب شؤونهم، فقدحوا في كثير من الرواة الثقات، لنقلهم بعض غرائب المعجزات حتى قال بعضهم: من الغلوّ نفي السّهو عنهم، أو القول بأنّهم يعلمون ما كان وما يكون وغير ذلك»(4).
وفي ذلك إشارة منه رحمه الله إلى رأي الشيخ الصّدوق فيما يخصّ سهو النبي صلّى الله عليه وآله، وهو رأي أفرط فيه الصّدوق رحمه الله نتيجة عدم تمكّنه من حلّ بعض الأخبار المشكلة.
ولابدّ من القول أننا قد تطرّقنا في بحوثنا عن العصمة لنظرية الشيخ الصّدوق رحمه الله نقداً وتحليلاً، وقلنا هناك:
إذا كان الشيخ الصّدوق رحمه الله يقول بأن نفي السهو عن المعصوم غلوّ، فهذا الكلام في الواقع سهو من نفس الشيخ الصّدوق رحمه الله، ورغم أننا نكنّ له كامل الإحترام والتقدير والتجليل، إلاّ أننا لا نقلّد أحداً في هذا المضمار، لأنّ العقائد تدور حول الأدلّة القطعيّة العقلية والنقلية.
وعلى الرغم من معرفة الشيخ المجلسي رحمه الله بمكانة الشيخ الصّدوق رحمه الله وعلوّ شأنه أكثر منّا، مع كلّ ذلك فهو يصفه بقوله الآنف:
«أفرط بعض المتكلّمين والمحدّثين لقصورهم…».
على هذا الأساس، فإن اعتقادنا بالأئمّة هو أنهم «يعلمون ما كان وما يكون». وإذا ما قال أحد: هذا غلوّ، فإنه مخطئ، بل إن الأمر أرفع مما يتصوّر، وأعلى ممّا يطيق، وهو ما أراده المعصوم عليه السّلام بقوله:
«لا تقولوا فينا ربّاً، وقولوا ما شئتم ولن تبلغوا…»(5).
قال: «ولنْ تبلغوا»، لقصور عقولنا عن فهم مراتب ومنازل الأئمّة عليهم السّلام كما نقرأ في رواية أخرى:
«إنّ أمرنا صعب مستصعب، لا يحتمله إلاّ ملك مقرّب أو نبي مرسل أو عبد مؤمن إمتحن الله قلبه للإيمان»(6).
ثم يقول شيخنا المجلسي:
«فلابدّ للمؤمن المتديّن أن لا يبادر بردّ ما ورد عنهم من فضائلهم ومعجزاتهم ومعالي أُمورهم، إلاّ إذا ثبت خلافه بضرورة الدين أو بقواطع البراهين أو بالآيات المحكمة أو بالأخبار المتواترة…»(7).
فإذا ما ورد عن رواتنا الثقاة وفي تضاعيف مصنفاتهم أخبار عن مراتب وفضائل ومعاجز وعظمة شأن الأئمّة عليهم السّلام، فلا ينبغي للمؤمن المتدين أن يردّ ذلك أو ينفيه حتى وإن لم يدركه في عقله.
وإنما خصصنا المؤمن المتدين بالذكر، احترازاً عن غير المتدين الذي لا يتقيّد بميزان علميٍّ ولا بمعيار عقليٍّ، وإنما يطلق آراءه حسبما يملي عليه هواه أو بمقدار عقليّته المحدودة، هذا إذا لم يكن هناك تأمل وشك في إيمانه. وهذا ما نجده في بعضهم من الذين يطلقون آراءهم بتكذيب أو إنكار مطالب لم تستوعبها عقولهم، أو لا تنسجم مع أمزجتهم، وهذا ما لا يتناسب مع الإيمان والتديّن والمعرفة التي تقتضيها رواياتنا.
أقول: إننا أمام محذورين كلاهما حرام:
الأول: محذور الغلو.
والثاني: محذور التقصير.
والمطلوب منّا أن لا نكون في المقصّرين ولا من المغالين. أي: أن لا نكون ممّن يدّعي للأئمة فوق ما هم عليه، ولا ممّن يغمطون حقّهم بأقلّ مما يستحقّونه.
هذا من جانب، ومن جانب آخر، أن لا نتقوَّل الكذب على الأئمّة، فكلامهم «قولوا فينا ما شئتم» لا يعطي المبرّر بأن نطلق ألسنتنا بتقول الكذب عليهم، أو ننسب إليهم ما هو عار من الدليل ويخالف الواقع، ذلك لأن عبارة «قولوا فينا ما شئتم» مقيّدة بما دلّ على حرمة الكذب والقول من غير علم ولا هدى، فلو أن أحداً أخبر ـ مثلاً ـ أن الإمام عليه السّلام، كان يُطعم المساكين في شهر رمضان بالآلاف في كلّ ليلة، فهو مفتر كذّاب.
إذن، فما على المؤمن إذا ما أراد مدح الأئمّة إلاّ أنْ ينقل ما ورد في حقّهم صحيحاً ولا تمنعه الأدلّة القطعيّة، وإن لم يستوعبه إدراكه العقلي.
(1) بحار الأنوار 25 / 342.
(2) سورة النساء، الآية: 157 و 158.
(3) بحار الأنوار 25 / 346.
(4) بحار الأنوار 25 / 347.
(5) بحار الأنوار 25 / 347.
(6) بحار الأنوار 2 / 71.
(7) بحار الأنوار 25 / 346.