تقدّمه في الخلق و هو نبيّ الأنبياء
ومن المناسب بمكان أن ننقل هنا ما ذكره الحافظ السيوطي خلال استعراضه لخصائص النبيّ صلّى الله عليه وآله، عن الحافظ تقي الدين السبكي الشّافعي، وهذا نصّه:
«فائدة: قال الشيخ تقي الدين السّبكي في كتابه التعظيم والمنّة في (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ)(1):
في هذه الآية من التنويه بالنبي صلّى الله عليه وآله وتعظيم قدره ما لا يخفى.
وفيه مع ذلك أنّه على تقدير مجيئه في زمانهم يكون مرسلاً إليهم، فتكون نبوّته ورسالته عامّة لجميع الخلق من زمن آدم إلى يوم القيامة، وتكون الأنبياء وأُممهم كلّهم من أُمته، ويكون قوله «بعثت إلى الناس كافة» لا يختص به الناس من زمانه إلى القيامة، بل يتناول من قبلهم أيضاً.
ويتبيّن بذلك المعنى قوله صلّى الله عليه وسلّم: «كنت نبيّاً وآدم بين الروح والجسد»، وأنّ من فسّره بعلم الله بأنّه سيصير نبيّاً لم يصل إلى هذا المعنى، لأنّ علم الله محيط بجميع الأشياء، ووصف النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالنبوّة في ذلك الوقت، ينبغي أن يفهم منه أنّه أمر ثابت له في ذلك الوقت، ولهذا رأى آدم اسمه مكتوباً على العرش: محمّد رسول الله، فلا بدّ أن يكون ذلك معنى ثابتاً في ذلك الوقت، ولو كان المراد بذلك مجرّد العلم بما سيصير في المستقبل لم يكن له خصوصيّة بأنّه نبيّ وآدم بين الروح والجسد; لأنّ جميع الأنبياء يعلم الله نبوّتهم في ذلك الوقت وقبله، فلا بُدّ من خصوصيّة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم لأجلها أخبر بهذا الخبر إعلاماً لأُمته ليعرفوا قدره عند الله تعالى، فيحصل لهم الخير بذلك.
وقال: فإن قلت: أريد أن أفهم ذلك القدر الزائد، فإنّ النبوّة وصف لابُدّ أن يكون الموصوف به موجوداً، وإنّما يكون بعد بلوغ أربعين سنة أيضاً، فكيف يوصف به قبل وجوده وقبل إرساله، وإن صحّ ذلك فغيره كذلك.
قلت: قد جاء إنّ الله خلق الأرواح قبل الأجساد، فقد تكون الإشارة بقوله: «كنت نبيّاً» إلى روحه الشريفة وإلى حقيقته، والحقائق تقصر عقولنا عن معرفتها، وإنّما يعلمها خالقها ومن أمدّه بنور إلهي. ثمّ إن تلك الحقائق يؤتي الله حقيقة منها ما يشاء في الوقت الذي شاء، فحقيقة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد تكون من قبل خلق آدم آتاها الله ذلك الوصف، بأن يكون خلقها متهيّئة لذلك، وأفاضه عليها من ذلك الوقت، فصار نبيّاً وكتب اسمه على العرش، وأخبر عنه بالرسالة ليعلم ملائكته وغيرهم كرامته عنده، فحقيقته موجودة من ذلك الوقت وإن تأخّر جسده الشريف المتّصف بها، واتصاف حقيقته بالأوصاف الشريفة المفاضة عليه من الحضرة الإلهية، وإنّما يتأخر البعث والتبليغ. وكلّ ماله من جهة الله ومن تأهل ذاته الشريفة وحقيقته معجّل لا تأخير فيه. وكذلك استنباؤه وإيتاؤه الكتاب والحكم والنبوّة، وإنّما المتأخر تكوّنه وتنقّله، إلى أن ظهر صلّى الله عليه وسلّم وغيره من أهل الكرامة، وقد تكون إفاضة الله تلك الكرامة عليه بعد وجوده بمدة كما يشاء سبحانه.
ولا شكّ أنّ كلّما يقع، فالله عالم به من الأزل، ونحن نعلم علمه بذلك بالأدلّة العقلية والشرعيّة، ويعلم الناس منها ما يصل إليهم عند ظهوره كعلمهم نبوّة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حين نزل عليه القرآن في أوّل ما جاءه جبريل، وهو فعل من أفعاله تعالى من جملة معلوماته، ومن آثار قدرته وإرادته واختياره في محلّ خاصّ يتّصف بها، فهاتان مرتبتان، الأولى معلومة بالبرهان، والثانية ظاهرة للعيان، وبين المرتبتين وسائط من أفعاله تعالى تحدث على حسب اختياره، منها ما يظهرلهم بعد ذلك، ومنها ما يحصل به كمال لذلك المحلّ وإن لم يظهر لأحد من المخلوقين، وذلك ينقسم إلى كمال يقارن ذلك المحلّ من حين خلقه، وإلى كمال يحصل له بعد ذلك، ولا يصل علم ذلك إلينا إلاّ بالخبر الصّادق، والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم خير الخلق، فلا كمال لمخلوق أعظم من كماله ولا محلّ أشرف من محلّه.
فعرفنا بالخبر الصّحيح حصول ذلك الكمال من قبل خلق آدم لنبينا صلّى الله عليه وسلّم من ربّه سبحانه، وأنّه أعطاه النبوّة من ذلك الوقت، ثمّ أخذ له المواثيق على الأنبياء ليعلموا أنّه المقدّم عليهم، وأنّه نبيّهم ورسولهم، وفي أخذ المواثيق ـ وهي في معنى الاستخلاف، ولذلك دخلت لام القسم في (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) ـ لطيفة أُخرى وهي كأنّها إيمان للبيعة التي تؤخذ للخلفاء، ولعلّ إيمان الخلفاء أخذت من هنا، فانظر هذا التعظيم العظيم للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم من ربّه سبحانه وتعالى.
فإذا عرف ذلك، فالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم هو نبيّ الأنبياء، ولهذا أظهر في الآخرة جميع الأنبياء تحت لوائه، وفي الدنيا كذلك ليلة الإسراء صلّى بها، ولو اتفق مجيؤه في زمن آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى وجب عليهم وعلى أُممهم الإيمان به ونصرته، وبذلك أخذ الله الميثاق عليهم ورسالته إليهم معنى حاصل له، وإنّما أمره يتوقف على اجتماعهم معه، فتأخر ذلك لأمر راجع إلى وجودهم لا إلى عدم اتصافه بما تقتضيه، وفرق بين توقف الفعل على قبول المحلّ وتوقفه على أهليّة الفاعل، فهاهنا لا توقف من جهة الفاعل ولا من جهة ذات النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الشريفة، وإنّما من جهة وجود العصر المشتمل عليه، فلو وجد في عصرهم لزمهم اتّباعه بلا شكّ.
ولهذا يأتي عيسى في آخر الزمان على شريعته وهو نبي كريم على حاله، لا كما يظن بعض الناس أنّه يأتي واحداً من هذه الأُمة، نعم، هو واحد من هذه الأُمة لما قلناه من اتّباعه للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وإنّما يحكم بشريعة نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم بالقرآن والسُنّة، وكلّ ما فيها من أمر أو نهي فهو متعلّق به كما يتعلّق بسائر الأُمة، وهو نبيّ كريم على حاله لم ينقص منه شيء، وكذلك لو بعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في زمانه أو في زمن موسى وإبراهيم ونوح وآدم، كانوا مستمرين على نبوتهم ورسالتهم إلى أممهم، والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم نبيّ عليهم ورسول إلى جميعهم.
فنبوّته ورسالته أعمّ وأشمل وأعظم، ومتفق مع شرائعهم في الأُصول; لأنّها لا تختلف، وتقدّم شريعته صلّى الله عليه وسلّم فيما عساه يقع الاختلاف فيه من الفروع; إمّا على سبيل التخصيص، وإما على سبيل النسخ، أو لا نسخ ولا تخصيص، بل تكون شريعة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في تلك الأوقات بالنسبة إلى أُولئك الأُمم ما جاءت به أنبياءهم، وفي هذا الوقت بالنسبة إلى هذه الأُمة هذه الشريعة، والأحكام تختلف باختلاف الأشخاص والأوقات.
وبهذا بان لنا معنى حديثين كان خفيّاً عنا:
أحدهما: قوله صلّى الله عليه وسلّم: بعثت إلى الناس كافة. كنّا نظن أنّه من زمانه إلى يوم القيامة، فبان أنّه جميع الناس أوّلهم وآخرهم.
والثاني: قوله صلّى الله عليه وسلّم: كنت نبيّاً وآدم بين الروح والجسد، كنّا نظن أنّه بالعلم، فبان أنّه زائد على ذلك على ما شرحناه، وإنّما يفترق الحال بين ما بعد وجود جسده صلّى الله عليه وسلّم وبلوغه الأربعين، وما قبل ذلك بالنسبة إلى المبعوث إليهم وتأهّلهم لسماع كلامه، لا بالنسبة إليه ولا إليهم لو تأهّلوا قبل ذلك، وتعليق الأحكام على الشروط قد يكون بحسب المحلّ القابل، وقد يكون بحسب الفاعل المتصرّف، فهاهنا التعليق إنّما هو بحسب المحلّ القابل المبعوث إليهم وقبولهم سماع الخطاب من الجسد الشريف الذي يخاطبهم بلسانه، وهذا كما يوكّل الأب رجلاً في تزويج ابنته إذا وجدت كفواً، فالتوكيل صحيح، وذلك الرجل أهل للوكالة ووكالته ثابتة، وقد يحصل توقف التصرّف على وجود كفو ولا يوجد إلاّ بعد مدّة، وذلك لا يقدح في صحّة الوكالة وأهليّة الوكيل. انتهى كلام السّبكي بلفظه»(2).
(1) سورة آل عمران، الآية: 81 .
(2) الخصائص الكبرى 1 / 3 ـ 5.