تفويض الأحكام إلى النبي و الأئمّة عليهم السّلام
ولكنّ الشيخ الكليني عقد باباً بعنوان «باب تفويض الأحكام إلى النبي والأئمّة عليهم السّلام»(1) وذكر فيه نصوصاً واضحة الدلالة على مشرّعية النبي والأئمّة المعصومين، وسيأتي ذكر بعضها.
فوقع الكلام بين علمائنا الأعلام منذ قديم الأيّام في كتب الكلام والحديث والفقه والاصول، في كيفيّة شرح تلك الأخبار والجمع بينها وما دلّ على أن تشريع الأحكام بيد الله وأنّ النبي قد بلّغ الشريعة كلّها.
أمّا النبيّ صلّى الله عليه وآله، فالظاهر أنْه لا خلاف بينهم في أنّ له الولاية على الأحكام وأنه قد أذن له الله في التصرّف فيها، وقد قال تعالى:
(وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى)(2).
وقال:
(وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)(3).
وقد وردت الروايات في كتب الفريقين بذيل هذه الآية صريحةً في ولاية النبي صلّى الله عليه وآله على الأحكام، منها:
عن فضيل بن يسار، قال:
سمعت أبا عبدالله عليه السّلام يقول لبعض أصحاب قيس الماصِر: «إنّ الله عزّ وجلّ أدّب نبيّه فأحسن أدبه، فلمّا أكمل له الأدب قال: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُق عَظيم)(4)، ثمّ فوّض إليه أمر الدين والأُمّة ليَسوس عباده، فقال عزّ وجلّ: (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)، وإنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله كان مُسدّداً مؤيّداً برُوح القُدُس، لا يزِلّ ولا يُخْطى، في شيء ممّا يَسُوس به الخلق، فتأدّب بآداب الله، ثمّ إنّ الله عزّ وجلّ فرض الصلاة رَكعتين ركعتين، عشر ركعات، فأضاف رسول الله صلّى الله عليه وآله إلى الرّكعتين، وإلى المغرب ركعة، فصارت عديل الفريضة، لا يجوز تركهنّ إلاّ في سفر، وأفرد الرّكعة في المغرب فتركها قائمة في السفر والحضر، فأجاز الله عزّ وجلّ له ذلك كلّه، فصارت الفريضة سبع عشرة ركعة.
ثمّ سنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله النوافل أربعاض وثلاثين ركعة مثلي الفريضة، فأجاز الله عزّ وجلّ له ذلك، والفريضة والنافلة إحدى وخمسون ركعة، منها ركعتان بعد العَتَمة جالساً تُعَدّ بركعة مكان الوتر.
وفرض الله عزّ وجلّ في السنة صوم شهر رمضان، وسنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله صوم شعبان، وثلاثة أيام في كلّ شهر مثلي الفريضة، فأجاز الله عزّ وجلّ له ذلك.
وحرّم الله عزّ وجلّ الخمر بعينها، وحرّم رسول الله صلّى الله عليه وآله المُسكر من كلّ شراب، فأجاز الله له ذلك.
وعاف رسول الله صلّى الله عليه وآله أشياء وكَرِهها ولم يَنْهَ عنها نَهي حرام، وإنّما نهى عنها نهي إعافة وكراهة، ثمّ رخّص فيها فصار الأخذ برُخَصهِ واجباً على العباد كوجوب ما يأخذون بنهيه وعزائمه، ولم يُرخّص لهم رسول الله صلّى الله عليه وآله فيما نهاهم عنه نَهْي حرام، ولا فيما أمر به أمر فرض لازم، فكَثِير المُسْكِر من الأشربة نهاهم عنه نَهْي حرام لم يُرخّص فيه لأحد، ولم يُرخّص رسول الله صلّى الله عليه وآله لأحد تقصير الرّكعتين اللتين ضمّهما إلى ما فرض الله عزّ وجلّ بل ألزمهم ذلك إلزاماً واجباً، لم يُرخّص لأحد في شيء من ذلك إلاّ للمسافر، وليس لأحد أن يرخّص ما لم يُرخّصه رسول الله صلّى الله عليه وآله فوافقَ أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله أمر الله عزّ وجلّ، ونهيه نهي الله عزّ وجلّ، ووجب على العباد التسليم له كالتسليم لله تبارك وتعالى.
وعن زُرارة: أنّهُ سَمِع أبا جعفر وأبا عبدالله عليهما السّلام يقولان: «إنّ الله تبارك وتعالى فوّض إلى نبيّه صلّى الله عليه وآله أمر خلقه لينظُر كيف طاعتهم» ثمّ تلا هذه الآية (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا).
وعن إسحاق بن عمّار، عن أبي عبدالله عليه السّلام، قال: إنّ الله تبارك وتعالى أدّب نبيّه صلّى الله عليه وآله، فلمّا انتهى به إلى ما أراد، قال له: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُق عَظيم)، ففوّض إليه دينه فقال: (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)، وَإنّ الله عزّ وجلّ فرض الفرائض ولم يقسم للجدّ شيئاً، وإنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله أطعمه السُّدُس فأجاز الله جلّ ذكره له ذلك، وذلك قول الله عزّ وجلّ: (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِساب)(5)(6).
إنما الكلام في الأئمّة… .
هل تثبت الولاية التكوينيّة للأئمة بمعنى: إذن الله تبارك وتعالى لهم بالتصرّف في الكون؟
هل تثبت الولاية التشريعيّة للأئمة بمعنى: إذن الله تبارك وتعالى لهم بالتصرّف في الأنفس والأموال؟
هل تثبت الولاية على الأحكام للأئمة بمعنى: إذن الله تبارك وتعالى بالتصرف في بعض خصوصيّات الأحكام؟
أمّا الولايتان الأولى والثانية، فنرجئ الكلام حولهما إلى موضعهما المناسب من الكتاب، وأمّا الولاية على الأحكام، فهذا هو الموضع المناسب للبحث عنها، فنقول:
إنّ مقتضى الأدلّة العامّة القائمة على ثبوت كلّ ما كان للنبيّ ـ عدا النبوّة ـ لأمير المؤمنين والأئمّة من بعده، والأدلّة المستفيضة الخاصّة بالتفويض، أي الولاية على الأحكام، ثبوت هذا المنصب للأئمة للنبيّ صلّى الله عليه وآله.
فمن الأدلّة العامّة:
1 ـ حديث المنزلة، هذا الحديث المتواتر عند الخاصّة والعامّة، حتى أن بعض كبار الحفاظ منهم ـ وهو الحافظ أبو حازم(7) ـ قال:
خرّجته بخمسة آلاف إسناد(8).
يقول رسول الله صلّى الله عليه وآله لعلي:
أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبي بعدي(9).
فقد ثبت في محلّه(10) دلالة هذا الحديث على أنّ لعلي منازل رسول الله عامّةً إلاّ النبوة.
2 ـ الأحاديث في أنّ الأئمّة ورثوا جميع الأنبياء:
فعن أبي عبدالله عليه السّلام في حديث:
ونحن ورثة النبيين(11).
وعن أبي الحسن الرّضا عليه السّلام في حديث:
نحن ورثة اُولي العزم من الرسل(12).
وعن علي بن الحسين عليه السّلام في حديث:
نحن ورثة الأنبياء(13).
3 ـ الأحاديث الواردة في فرض طاعة الأئمّة، كقول أبي جعفر الباقر عليه السّلام:
إن طاعتنا مفترضة عليهم كطاعة رسول الله صلّى الله عليه وآله(14).
ومن الأدلّة الخاصّة:
ما ورد بسند صحيح عن أبي عبدالله الصّادق عليه السّلام أنه قال:
«اِنّ الله عزّ وجلّ أدّب نبيه على محبّته فقال:
(وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُق عَظيم).
ثم فوّض إليه فقال عزّ وجلّ:
(وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا).
وقال عزّ وجلّ:
(مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللّهَ).
ثم قال: وإن نبي الله فوّض إلى عليٍّ عليه السّلام وائتمنه، فسلّمتم وجحد الناس، فوالله لنحبّكم أن تقولوا إذا قلنا، وتصمتوا اذا صمتنا، ونحن فيما بينكم وبين الله عزّ وجلّ، ما جعل الله لأحد خيراً في خلاف أمرنا»(15).
وعنه عليه السّلام:
إنّ الله عزّ وجلّ أدّب نبيّه حتّى قوّمه على ما أراد، ثم فوّض إليه فقال عزّ وجلّ:
(وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)(16).
فما فوّض الله إلى رسوله فقد فوّضه إلينا(17).
(1) الكافي 2 / 265.
(2) سورة النجم، الآية: 3 ـ 4.
(3) سورة الحشر: الآية: 7.
(4) سورة القلم، الآية: 4.
(5) سورة ص، الآية: 39.
(6) البرهان في تفسير القرآن 5 / 336 ـ 337.
(7) هو: الحافظ الكبير أبو حازم عمر بن أحمد العبدوي الأعرج النيسابوري المتوفى سنة 417، تاريخ بغداد 11 / 271.
(8) شواهد التنزيل 1 / 195.
(9) هذا حديث المنزلة المتواتر بين المسلمين.
(10) أنظر: نفحات الأزهار ج 17 ـ 18.
(11) الكافي 1 / 231.
(12) الكافي 1 / 224.
(13) بحار الأنوار 23 / 314.
(14) الكافي 1 / 216.
(15) المصدر 1 / 265.
(16) سورة الحشر، الآية: 7.
(17) الكافي 1 / 268.