الوصاية عن النبي هي الإمامة من بعده
أي: عهد إليهم بها… و«العهد» هو «الوصاية»، وإذا قيل «عهد النبيّ» مثلاً كان المراد: «الوصاية» و«الإمامة»، وهذا صريح الأخبار في كتب الفريقين:
عن عمرو بن الأشعث قال: سمعت أبا عبدالله عليه السّلام يقول: أترون الموصي منّا يوصي إلى من يريد؟! لا والله، ولكن عهدٌ من الله ورسوله صلّى الله عليه وآله لرجل فرجل، حتّى ينتهي الأمر إلى صاحبه.
وعن معاوية بن عمّار، عن أبي عبدالله عليه السّلام قال: إنّ الإمامة عهد من الله عزّ وجلّ معهود لرجال مسمّين، ليس للإمام أن يزويها عن الّذي يكون من بعده.
إنّ الله تبارك وتعالى أوحى إلى داود عليه السّلام أن اتّخذ وصيّاً من أهلك فإنّه قد سبق في علمي أن لا أبعث نبيّاً إلاّ وله وصيُّ من أهله، وكان لداود عليه السّلام أولادٌ عدّة، وفيهم غلام كانت اُمّة عند داود وكان لها محبّاً، فدخل داود عليه السّلام عليها حين أتاه الوحي فقال لها: إنّ الله عزّ وجلّ أوحى إليّ يأمرني أن أتّخذ وصيّاً من أهلي، فقالت له امرأته: فليكن ابني. قال: ذلك اُريد، وكان السابق في علم الله المحتوم عنده أنّه سليمان، فأوحى الله تبارك وتعالى إلى داود: أن لا تعجل دون أن يأتيك أمري، فلم يلبث داود عليه السّلام أن ورد عليه رجلان يختصمان في الغنم والكرم، فأوحى الله عزّ وجلّ إلى داود أن اجمع ولدك، فمن قضى بهذه القضيّة فأصاب فهو وصيّك من بعدك، فجمع داود عليه السّلام ولده، فلمّا أن قصّ الخصمان، قال سليمان عليه السّلام: يا صاحب الكرم متى دخلت غنم هذا الرجل كرمك؟ قال: دخلته ليلاً، قال: قضيت عليك يا صاحب الغنم بأولاد غنمك وأصوافها في عامك هذا، ثمّ قال له داود: فكيف لم تقض برقاب الغنم وقد قوّم ذلك علماء بني إسرائيل وكان ثمن الكرم قيمة الغنم؟ فقال سليمان: إنّ الكرم لم يجتثّ من أصله وإنّما اُكل حمله وهو عائد في قابل.
فأوحى الله عزّ وجلّ إلى داود: أنّ القضاء في هذه القضيّة ما قضى سليمان به، يا داود، أردت أمراً وأردنا أمراً غيره. فدخل داود على امرأته فقال: أردنا أمراً وأراد الله عزّ وجلّ أمراً غيره ولم يكن إلاّ ما أراد الله عزّ وجلّ، فقد رضينا بأمر الله عزّ وجلّ وسلّمنا.
وكذلك الأوصياء عليهم السّلام، ليس لهم أن يتعدّوا بهذا الأمر فيجاوزون صاحبه إلى غيره»(1).
ولمّا اُريد من عمر بن الخطاب أن يوصي بالخلافة لأحد من بعده، قال:
إنْ أعهد، فقد عهد من هو خير منّي، يعني أبا بكر، وإنْ اترك، فقد ترك من هو خير منّي، يعني رسول الله صلّى الله عليه وآله(2).
ولكنّ أبا بكر لم يكن له من الأمر شيء حتى يعهد لأحد من بعده، أمّا رسول الله صلّى الله عليه وآله، فقد عهد إلى علي عليه السّلام، وهو وصيّه بأمر من الله.
وهكذا كانت السنّة التي سارت عليها جميع الرسالات، فإنّهم ما فارقوا اُممهم إلاّ بعد تعيين الوصي والإمام من بعدهم، كي يبقى ركب النبوّات ونهج الشرائع الإلهيّة مستمرّاً:
روى الشيخان الصّدوق والطوسي بإسنادهما عن أبي عبدالله الصّادق عليه السّلام قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: أنا سيّد النبيين ووصيي سيّد الوصيين وأوصياؤه سادة الأوصياء.
إنّ آدم عليه السّلام سأل الله عزّ وجلّ أن يجعل له وصيّاً صالحاً، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه أنّي أكرمت الأنبياء بالنبوّة، ثمّ اخترت خلقي فجعلت خيارهم الأوصياء.
فقال آدم عليه السّلام: يا ربّ! فاجعل وصيي خير الأوصياء.
فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: يا آدم! أوص إلى شيث وهو هبة الله بن آدم.
فأوصى آدم إلى شيث، وأوصى شيث إلى ابنه شبان وهو ابن نزلة الحوراء الّتي أنزلها الله عزّ وجلّ على آدم من الجنّة فزوّجها شيثاً، وأوصى شبان إلى ابنه مجلث، وأوصى مجلث إلى محوق، وأوصى محوق إلى غثميشا، وأوصى غثميشا إلى أخنوخ وهو إدريس النبي عليه السّلام، وأوصى إدريس إلى ناخور، ودفعها ناخور إلى نوح عليه السّلام، وأوصى نوح إلى سام، وأوصى سام إلى عثامر وأوصى عثامر إلى برعيثاشا، وأوصى برعيثاشا إلى يافث.
وأوصى يافث إلى برة، وأوصى برة إلى جفيسة وأوصى جفيسة إلى عمران.
ودفعها عمران إلى إبراهيم الخليل عليه السّلام، وأوصى إبراهيم إلى ابنه إسماعيل، وأوصى إسماعيل إلى إسحاق، وأوصى إسحاق إلى يعقوب، وأوصى يعقوب إلى يوسف، وأوصى يوسف إلى بثرياء، وأوصى بثرياء إلى شعيب.
وأوصى شعيب إلى موسى بن عمران، وأوصى موسى إلى يوشع بن نون وأوصى يوشع إلى داود وأوصى داود إلى سليمان، وأوصى سليمان إلى آصف بن برخيا، وأوصى آصف بن برخيا إلى زكريا، ودفعها زكريا إلى عيسى بن مريم عليه السّلام، وأوصى عيسى إلى شمعون ابن حمون الصفا، وأوصى شمعون إلى يحيى بن زكريا، وأوصى يحيى بن زكريا إلى منذر، وأوصى منذر إلى سليمة، وأوصى سليمة إلى بردة.
ثمّ قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: ودفعها إليّ بردة، وأنا أدفعها إليك يا علي! وأنت تدفعها إلى وصيك، ويدفعها وصيك إلى أوصيائك من ولدك واحداً بعد واحد حتّى تدفع إلى خير أهل الأرض بعدك.
ولتكفرنّ بك الأمة ولتختلفن عليك اختلافاً شديداً. الثابت عليك كالمقيم معي والشاذ عنك في النار، والنار مثوى للكافرين.(3)
(1) الكافي 1 / 279.
(2) تاريخ ابن خلدون 1 / 212، تاريخ الخلفاء 1 / 14.
(3) كمال الدين 1 / 211 ـ 212، أمالي الطوسي 2 / 57.