أسرّوا ببعضها لآحاد من أصحابهم
فكلّ الحقائق عند النبي وآله الأطهار، وقد اُذن لهم بالكشف عن بعضها ولم يؤذن ذلك بالنسبة إلى البعض الآخر، إذ لا يحتمله إلاّ ملك مقرب أو نبيّ مرسل، وإذا أرادوا إعطاء شيء منه لأحد امتحنوه كما قال: أو عبد امتحن الله قلبه للإيمان.
ومن هنا كان الإمام علي يشير إلى صدره ويقول:
إن هاهنا لعلماً جمّاً لو أصبت له حملة(1).
إذن… لقد بيّن الأئمّة عليهم السّلام كثيراً من العلوم والحكم وعلّموها لمن كان لها أهلاً ومنهم انتشرت، ولكنّ كثيراً ممّا كان عندهم لم يجدوا له حملةً، وبقيت عندهم محفوظةً مكتومة، ومن هذا الباب ما روي عن الإمام السجّاد علي بن الحسين عليه السّلام أنه قال:
إني لأكتم من علمي جواهره *** كيلا يرى الحق ذو جهل فيفتننا
وقد تقدّم في هذا أبو حسن *** إلى الحسين ووصّى قبله الحسنا
ورُبَّ جوهر علم لو أبوح به *** لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا(2)
إلاّ إذا وجدوا لبعضها حملةً أخبروه ثم أمروه بالكتمان، ولعلّ من هؤلاء الأفراد القلائل: جابر بن يزيد الجعفي، وقد روى عنه الشيخ الكليني بإسناده قال:
حدّثني محمّد بن علي عليه السّلام سبعين حديثاً لم اُحدّث بها أحداً قط ولا اُحدّث بها أحداً أبداً، فلمّا مضى محمّد بن علي عليهما السّلام ثقلت على عنقي وضاق بها صدري، فأتيت أبا عبدالله عليه السّلام فقلت: جعلت فداك، إن أباك حدّثني سبعين حديثاً لم يخرج منّي شيء منها ولا يخرج شيء منها إلى أحد، وأمرني بسترها، وقد ثقلت على عنقي وضاق بها صدري، فما تأمرني؟
فقال: يا جابر، إذا ضاق بك من ذلك شيء، فاخرج إلى الجبّانة واحتفر حفيرةً، ثم دلّ رأسك فيها وقل: حدّثني محمّد بن علي بكذا وكذا، ثم طمّه، فإنّ الأرض تستر عليك.
قال جابر: ففعلت ذلك فخفّ عنّي ما كنت أجده(3).
أقول:
ومع ذلك كلّه، فقد اشتهر جابر بن يزيد الجعفي بهذا الأمر حتّى بين المخالفين، فمنهم من وثّقه حتى قال بعضهم: ما رأيت أورع منه في الحديث، وقال آخر: ما شككتم في شيء فلا شكّوا أن جابراً الجعفي ثقة، وعن الشافعي قال سفيان لشعبة: لئن تكلّمت في جابر الجعفي لأتكلّمنّ فيك. ومنهم من كذّبه لكونه شيعيّاً موالياً لأهل البيت يعتقد برجعتهم(4).
(1) الخصال 1 / 186، نهج البلاغة: 496.
(2) المحجّة البيضاء 1 / 65، ينابيع المودّة 1 / 76.
(3) الكافي 8 / 157.
(4) انظر: ميزان الإعتدال 1 / 379.