منشأ الإختلاف في مسألة المتعة
إذن، من أين يبدأ النزاع والخلاف؟ وما السبب في ذلك؟ وما دليله؟
المستفاد من تحقيق المطلب، والنظر في أدلّة القضيّة، وحتّى تصريحات بعض الصحابة والعلماء، أنّ هذا الجواز وهذا الحكم الشرعي، كان موجوداً إلى آخر حياة رسول اللّه، وكان موجوداً في عصر أبي بكر وحكومته من أوّلها إلى آخرها، وأيضاً في زمن عمر بن الخطّاب إلى أواخر حياته، نظير الشورى كما قرأنا ودرسنا.
وفي أواخر حياته قال عمر بن الخطّاب ـ في قضيّة ـ كلمته المشهورة: متعتان كانتا على عهد رسول اللّه وأنا أنهى عنهما وأُعاقب عليهما!! يعني متعة النساء ومتعة الحج، وبحثنا الآن في متعة النساء.
تجدون هذه الكلمة في المصادر التالية: [المحلّى] لابن حزم(1)، [أحكام القرآن] للجصّاص(2)، [سنن البيهقي](3)، [شرح معاني الآثار] للطحاوي(4)، [تفسير الرازي](5)، [بداية المجتهد] لابن رشد(6)، [شرح التجريد] للقوشچي الأشعري في بحث الإمامة، [تفسير القرطبي](7)، [المغني] لابن قدامة(8)، [زاد المعاد في هدي خير العباد] لابن قيّم الجوزيّة(9)، [الدر المنثور في التفسير بالمأثور](10)، [كنز العمّال](11)، [وفيات الأعيان] لابن خلّكان بترجمة يحيى بن أكثم(12)، وسنقرأ القضيّة.
ومن هؤلاء من ينصّ على صحّة هذا الخبر، كالسرخسي الفقيه الكبير الحنفي في كتابه [المبسوط في فقه الحنفيّة] في مبحث المتعة(13) ومنهم أيضاً من ينصّ على ثبوت هذا الخبر، كابن قيّم الجوزيّة في [زاد المعاد]، وسنقرأ عبارته.
صريح الأخبار: أنّ هذا التحريم من عمر ـ وقوله كانتا على عهد رسول اللّه وأنا أنهى عنهما وأُعاقب عليهما ـ كان في أواخر أيّام حياته، ومن الأخبار الدالّة على ذلك: ما عن عطاء عن جابر قال: استمتعنا على عهد رسول اللّه وأبي بكر وعمر، حتّى إذا كان في آخر خلافة عمر، استمتع عمرو بن حريث بامرأة سمّاها جابر فنسيتها، فحملت المرأة، فبلغ ذلك عمر، فذلك حين نهى عنها.
«حتّى إذا كان في آخر خلافة عمر» هذا نصّ الحديث.
وهو في [المصنّف] لعبد الرزّاق(14)، وفي [صحيح مسلم](15)، وفي [مسند أحمد](16)، وفي [سنن البيهقي](17).
ولم يكن هذا التحريم تحريماً بسيطاً كسائر التحريمات، وإنّما تحريم وعقاب، تحريم مع تهديد بالرجم.
لاحظوا، أنّه قال: لو أنّي بلغني أنّ أحداً فعل كذا ومات، لأرجمنّ قبره.
وأيّ المحرّمات يكون هكذا؟
ففي [المبسوط] للسرخسي: لو أُوتى برجل تزوّج امرأة إلى أجل إلاّ رجمته، ولو أدركته ميّتاً لرجمت قبره(18).
وحينئذ، نرى بأنّ هذا التحريم لم يكن من أحد، ولم يصدر قبل عمر من أحد، وكان هذا التحريم منه، وهذا من أوّليّات عمر بن الخطّاب.
ويقال: بأنّه جاء رجل من الشام، فمكث مع امرأة ما شاء اللّه أن يمكث، ثمّ إنّه خرج، فأُخبر بذلك عمر بن الخطّاب، فأرسل إليه فقال: ما حملك على الذي فعلته؟ قال: فعلته مع رسول اللّه ثمّ لم ينهانا عنه حتّى قبضه اللّه، ثمّ مع أبي بكر فلم ينهانا حتّى قبضه اللّه، ثمّ معك فلم تحدث لنا فيه نهياً، فقال عمر: أما والذي نفسي بيده لو كنت تقدّمت في نهي لرجمتك(19).
فإلى هذه اللّحظة لم يكن نهي، ومن هنا يبدأ النهي والتحريم.
ولذا نرى أنّ الحديث والتاريخ وكلمات العلماء كلّها تنسب التحريم إلى عمر، وتضيفه إليه مباشرة.
فعن أمير المؤمنين عليه السلام: لولا أنّ عمر نهى عن المتعة ما زنى إلاّ شقي.
هذا في [المصنّف] لعبد الرزاق(20)، و[تفسير الطبري](21)، و[الدر المنثور](22)، و[تفسير الرازي](23).
وعن ابن عبّاس: ما كانت المتعة إلاّ رحمة من اللّه تعالى رحم بها عباده، ولولا نهي عمر ما زنى إلاّ شقي.
هذا في [تفسير القرطبي](24).
وفي بعض كتب اللغة يذكرون هذه الكلمة عن ابن عبّاس أو عن أمير المؤمنين، لكن ليست الكلمة: إلاّ شقي، بل: إلاّ شفى، ويفسرون الكلمة بمعنى القليل، يعني لولا نهي عمر لما زنى إلاّ قليل(25).
ولم أحقّق الموضوع في أنّ اختلاف النسخة هذا من أين، ولم أتقصد ذلك، ولم يهمّني كثيراً.
المهم أنّ تحريم المتعة من أوّليات عمر بن الخطّاب، وتجدون التصريح بهذا في كتاب [تاريخ الخلفاء] للسيوطي(26).
فإلى هنا رأينا الجواز بأصل الشرع، بالكتاب والسنّة والإجماع… ورأينا التحريم من عمر بن الخطّاب وفي آخر أيّام خلافته، ولابد أنّ بعض الصحابة اتّبعوه في هذا التحريم، وفي مقابله كبار الصحابة وعلى رأسهم أمير المؤمنين سلام اللّه عليه، إذ كان موقف هؤلاء موقفاً صارماً واضحاً في هذه المسألة.
أمّا كلمة أمير المؤمنين فقرأناها: لولا نهي عمر لما زنى إلاّ شقي.
ويقول ابن حزم: وقد ثبت على تحليلها بعد رسول اللّه جماعة من السلف، منهم ـ من الصحابة ـ :
1 ـ أسماء بنت أبي بكر.
2 ـ جابر بن عبد اللّه.
3 ـ وابن مسعود.
4 ـ وابن عبّاس.
5 ـ ومعاوية بن أبي سفيان.
6 ـ وعمرو بن حريث.
7 ـ وأبو سعيد الخدري.
8 و 9 ـ وسلمة ومعبد ابنا أُميّة بن خلف.
ورواه جابر عن جميع الصحابة مدّة رسول اللّه ومدّة أبي بكر وعمر إلى قرب آخر خلافة عمر.
هذه عبارة ابن حزم ويقول: ومن التابعين:
1 ـ طاووس.
2 ـ وعطاء.
3 ـ وسعيد بن جبير.
4 ـ … وسائر فقهاء مكّة أعزّها اللّه(27).
أمّا القرطبي، فذكر بعض الصحابة منهم: عمران بن حصين، وذكر عن ابن عبد البر أنّ أصحاب ابن عبّاس من أهل مكّة واليمن كلّهم يرون المتعة حلالاً على مذهب ابن عبّاس(28).
إذن، ظهر الخلاف، ومن هنا يبدأ التحقيق في القضيّة، ولنا الحق في تحقيق هذه القضيّة أو لا؟ وتحقيقنا ليس إلاّ نقل نصوص وكلمات لا أكثر، كما ذكرنا من قبل.
ولننظر في تلك الأحاديث والكلمات، لنرى أنّ الحقّ مع من؟
كان شيء حلالاً في الشريعة الإسلاميّة، ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم لم يحرّمه، وأبو بكر لم يحرّمه، والصحابة لم يحرّموه، وعمر أيضاً لم يحرّمه إلى أواخر أيّام حياته، وقد عملوا بهذا الحكم الشرعي، وطبّقوه في جميع هذه الأدوار، فماذا يقول العلماء في هذه القضيّة؟
أمّا علماء الإماميّة، فيجعلون هذه القضيّة في جملة الموانع من صلاحيّة عمر بن الخطّاب للخلافة بعد رسول اللّه، لأنّ وظيفة الخليفة أن يكون حافظاً للشريعة لا مبدّلاً ومغيّراً لها.
وقد قرأنا في كتاب [المواقف] و[شرح المواقف] وغير هذين الكتابين: أنّ من أهمّ وظائف الخليفة والإمام بعد رسول اللّه المحافظة على الدين من الزيادة والنقصان، ودفع الشبه والإشكالات الواردة عن الآخرين في هذا الدين.
فيقول الإماميّة بأنّ هذه القضيّة من جملة ما يستدلّ به على عدم صلاحيّة هذا الصحابي للخلافة بعد رسول اللّه.
أمّا علماء أهل السنّة القائلون بخلافته وإمامته بعد أبي بكر، فلابدّ وأن يجيبوا عن هذا الإشكال، فلنحقق في أجوبة القوم عن هذا الإشكال الموجّه إلى خليفتهم.
(1) المحلّى 7 / 107.
(2) أحكام القرآن 1 / 352، 354.
(3) سنن البيهقي 7 / 206.
(4) شرح معاني الآثار 2 / 146.
(5) تفسير الرازي 10 / 50.
(6) بداية المجتهد والنهاية المقتصد 2 / 47.
(7) تفسير القرطبي 2 / 392.
(8) المغني في الفقه 7 / 572.
(9) زاد المعاد 2 / 184.
(10) الدرّ المنثور 2 / 141.
(11) كنز العمّال 16 / 519.
(12) وفيات الأعيان 5 / 122.
(13) المبسوط في فقه الحنفيّة 5 / 497.
(14) المصنّف 7 / 469.
(15) صحيح مسلم بشرح النووي 9 / 183.
(16) مسند أحمد 3 / 304 و 380.
(17) سنن البيهقي 7 / 237.
(18) المبسوط في فقه الحنفيّة 5 / 153.
(19) كنز العمّال 16 / 522.
(20) المصنّف 7 / 500.
(21) تفسير الطبري 5 / 19.
(22) الدرّ المنثور 2 / 140.
(23) تفسير الرازي 10 / 5.
(24) تفسير القرطبي 5 / 130.
(25) أنظر: لسان العرب 14 / 437 وتاج العروس 10 / 200.
(26) تاريخ الخلفاء: 137.
(27) المحلّى 9 / 520.
(28) تفسير القرطبي 5 / 133.