خاتمة البحث
إذن، أصبحوا صفر اليدين من الكتاب والسنّة.
وحينئذ، تصل النوبة إلى السبّ والشتم، وإلى ما لا يتفوّه به عالم، لا يتفوّه به فاضل، فكيف وهو يدّعي أنّه من كبار العلماء!
لاحظوا ابن العربي المالكي(1) يقول: إتفقت العلماء على وجوب غسلهما ـ أي الرجلين ـ وما علمت من ردّ ذلك، سوى الطبري من فقهاء المسلمين والرافضة من غيرهم.
فما معنى هذا الكلام؟
ويقول شهاب الدين الخفاجي في [حاشيته على تفسير البيضاوي]: ومن أهل البدع من جوّز المسح على الرجل(2).
ويقول الآلوسي ـ الكلام الذي وعدتكم بقراءته: لا يخفى أنّ بحث الغسل والمسح ممّا كثر فيه الخصام، وطالما زلّت فيه الأقدام، وما ذكره الإمام [الرازي ]يدلّ على أنّه راجل في هذا الميدان [ذكرت لكم أنّ الرازي يوضّح كيفيّة دلالة الآية على المسح بالقراءتين] فلنبسط الكلام في تحقيق ذلك رغماً لأُنوف الشيعة السالكين من السبل كلّ سبيل حالك، ما يزعمه الإماميّة من نسبة المسح إلى ابن عبّاس وأنس بن مالك وغيرهما كذب مفترى عليهم، ونسبة جواز المسح إلى أبي العالية وعكرمة والشعبى زور وبهتان، وكذلك نسبة الجمع بين الغسل والمسح أو التخيير بينهما إلى الحسن البصري عليه الرحمة. ومثله نسبة التخيير إلى محمّد بن جرير الطبري صاحب التاريخ الكبير والتفسير الشهير. وقد نشر رواة الشيعة هذه الأكاذيب المختلفة ورواها بعض أهل السنّة ممّن لم يميّز الصحيح والسقيم من الأخبار، بلا تحقّق ولا سند، واتسع الخرق على الراقع، ولعلّ محمّد بن جرير القائل بالتخيير هو محمّد بن جرير رستم الشيعي صاحب المسترشد في الإمامة أبو جعفر، لا أبو جعفر محمّد بن جرير بن غالب الطبري الشافعي الذي هو من أعلام السنّة، والمذكور في تفسير هذا هو الغسل فقط، لا المسح ولا الجمع ولا التخيير الذي نسبه الشيعة إليه(3).
يكفي هذا المقدار من السبّ؟ أو تريدون أكثر؟ يكفيكم هذا المقدار!
لكن نرى بعضهم لا يتحمّل هذا السبّ على الشيعة وهو ليس من الشيعة.
يقول صاحب [المنار](4): إنّ في كلامه عفا اللّه عنه تحاملاً على الشيعة وتكذيباً لهم في نقل وُجد مثله في كتب أهل السنّة كما تقدّم، وظاهره أنّه لم يطلّع على تفسير ابن جرير الطبري.
فالآلوسي إذن أصبح جاهلاً لم يطّلع على تفسير ابن جرير الطبري، وهو صاحب التفسير [روح المعاني] على كبره! هذا دفاع أو توجيه وتبرير لسبّ جناب الآلوسي، هذا الشخص الذي يدّعي أنّه من ذريّة رسول اللّه.
قد ظهر إلى الآن: أنّ الصحيح بالكتاب والسنّة هو المسح دون الغسل، وعليه الإماميّة كلّهم، وعليه من صحابة رسول اللّه كثيرون، على رأسهم أمير المؤمنين عليه السلام وابن عبّاس وأنس بن مالك وجماعة آخرون.
أمّا أهل السنّة، فالمشهور بينهم الغسل، وقد عرفنا أنّهم لا دليل لهم على هذه الفتوى، ولذا اضطرّ بعضهم إلى أن يقول بالجمع بين الغسل والمسح، وبعضهم خيّر بين الأمرين.
لاحظوا، في [المرقاة في شرح المشكاة] للقاري يقول بأنّ أحمد والأوزاعي والثوري وابن جبير يقولون بالتخيير بين المسح والغسل(5).
هذه مرحلة من الحقّ، التخيير مرحلة من الحقّ، الحقّ هو المسح على التعيين، لكن نفي تعيين الغسل والتخيير بينه وبين المسح مرحلة على كلّ حال، فهو يدلّ على أنّهم لا دليل لهم على تعيّن الغسل.
نعم، لو كان الشتم دليلاً فهو من أعظم الأدلّة.
وأمّا الحسن البصري، فقد اختلفوا في رأيه ماذا كان رأيه؟ وأيضاً الطبري صاحب التفسير والتاريخ، خلطوا لئلاّ يتبيّن واقع أمره، لاحظوا عباراتهم في حقّ الطبري.
فأبو حيّان أخرج الطبري من أهل السنّة وجعله من علماء الشيعة أصلاً، لاحظوا [لسان الميزان] لابن حجر العسقلاني(6). والسليماني ـ وهو من كبار علمائهم في الجرح والتعديل ـ لم ينكر كون الطبري من أهل السنّة وإنّما قال: كان يضع للروافض. أي يكذب على رسول اللّه لصالح الشيعة، وهذا تجدونه في ]ميزان الاعتدال[(7).
والذهبي هنا له نوع من الإنصاف، نزّه الطبري من كونه وضّاعاً للشيعة، وعن كونه من الروافض وقال: هذا من كبار علماء السنّة وما هذا الكلام في حقّه! نعم له رأي في مسألة المسح على الرجلين(8).
الرازي وجماعة ينسبون إلى الطبري القول بالتخيير، آخرون ينسبون إليه القول بالجمع، لاحظوا كتاب [المنار](9). وابن حجر العسقلاني إحتمل أن يكون هذا الطبري المذكور في الكتب هو الطبري الشيعي، واختلط الأمر عليهم والطبري الشيعي أيضاً قائل بالمسح فتصوّر الكتّاب والمؤلّفون والمطالعون أنّ هذا الطبري صاحب التفسير والتاريخ، وهل يُصدّق بهذا؟!
إذن، لماذا رماه ذاك بالرفض، ولماذا رماه ذاك بالوضع، ولماذا قال الآخر قولاً آخر في حقّه، ولماذا كلّ هذا؟
عرفتم أنّ القول بالمسح رأي كثير من الصحابة والتابعين، وقول الحسن البصري أيضاً، وقول الطبري صاحب التفسير والتاريخ كذلك، وهناك علماء آخرون أيضاً يقولون بهذا القول.
أذكر لكم قضيّة، فلاحظوا، ذكروا(10) بترجمة أبي بكر محمّد بن عمر بن الجعابي ـ هذا الإمام الحافظ الكبير، والمحدّث الشهير ـ ذكروا بترجمته أنّهم قد وضعوا علامة على رجله حينما كان نائماً، خطّوا على رجله بقلم أو بشيء آخر وهو نائم لا يشعر، وبعد ثلاثة أيّام رأوا الخطّ موجوداً على رجله، فقالوا بأنّ هذا الشخص لم يصلّ، لأنّه إنْ كان قد صلّى فقد توضّأ، وإن كان قد توضّأ فقد غسل رجله، وحينئذ تزول العلامة عن رجله، ولمّا كانت باقيةً فهو إذنْ لم يصلّ هذه المدّة.
أقول: إن كان أبو بكر الجعابي تاركاً للصلاة حقيقةً، فهذا ليس غريباً، فكم له من نظير في كبار علمائهم، ولي مذكّرات من كبار علمائهم الأعلام ينصّون بتراجمهم أنّه كان يترك الصلاة، من جملتهم زاهر بن طاهر الشحّامي النيسابوري، يصرّحون بأنّ هذا المحدّث كان يترك الصلاة مع أنّهم يعتبرونه من كبار الحفّاظ، يعتمدون على روايته بل يجعلونه من جملة الشهود عند الحكّام، والشاهد يجب أن يكون عادلاً، وكأنّ ترك الصلاة لا يضرّ بالعدالة.
فإن كان الجعابي تاركاً للصلاة فكم له من نظير.
أمّا إذا كان يمسح على رجله كالشيعة ولا يغسل رجله، فتبقى العلامة على رجله لا ثلاثة أيّام ولربّما خمسين يوماً إذا لم يذهب إلى الحمام ليغسل، فيبقى الخطّ على رجله، فيدور أمر الجعابي، بين أن يكون تاركاً للصلاة فكم له من نظير، أو إنّه على قول أصحابنا الإماميّة في هذه المسألة.
وصلّى اللّه على محمّد وآله الطاهرين.
(1) نسبه إليه القرطبي في تفسيره 6 / 91، والشوكاني في فتح القدير: 2 ولم أجده في كتابه أحكام القرآن الموجود حالياً.
(2) الشهاب على البيضاوي 3 / 220.
(3) روح المعاني 3 / 226.
(4) تفسير المنار 6 / 193.
(5) المرقاة في شرح المشكاة 1 / 351.
(6) لسان الميزان 5 / 100.
(7) ميزان الإعتدال 3 / 498.
(8) سير أعلام النبلاء 14 / 277.
(9) تفسير المنار 6 / 191.
(10) سير أعلام النبلاء 16 / 90.