بعض جزئيات طرح فكرة الشورى
فلنراجع المصادر ـ كما هو دأبنا ـ ونحاول أن نعثر على جزئيات القضايا وخصوصياتها، من الشروح والحواشي، وإلاّ فهم لا يذكرون، فبعد قرون يأتي محدّث أو مورّخ، ويفتح لنا بعض الألغاز، ويكشف لنا بعض الحقائق وبعض الأسرار.
كان الخبر المذكور في صحيح البخاري، في كتاب الحدود، كتاب المحاربين من أهل الكفر والردّة، في باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت.
والعجيب أن يوضع هذا الخبر تحت هذا العنوان، صحيح أنّ في مقدّمة الخبر ذكر عمر قضيّة رجم الحبلى، ولم أعرف إلى الآن ـ على اليقين ـ وجه ذكر هذه القضيّة أو هذا الحكم أو هذه الآية من القرآن التي ليست موجودةً الآن في القرآن الكريم، إلاّ أنّ الخبر كان يقتضي أن يعنونه البخاري بعنوان خاص، أن يجعل له عنواناً بارزاً يخصّه ويجلب النظر إلى القضيّة، وأمّا أنّ هذا الخبر يأتي تحت هذا العنوان فمن الذي يطلع عليه؟ وهذا أيضاً من جملة ما يفعله المحدّثون(1).
هذا في الصفحة 585 إلى 588 من الجزء الثامن من طبعة البخاري، هذه الطبعة التي هي بشرح وتحقيق الشيخ قاسم الشمّاعي الرفاعي، هذه الطبعة الموجودة عندي واللّه أعلم.
لنرجع إلى الشروح، لنعرف السبب الذي دعا عمر لأنْ يطرح فكرة الشورى ـ ولا أستبعد أن يكون لعبد الرحمن بن عوف ضلع في أصل الفكرة، كما كان في كيفيّة طرحها كما في صريح الخبر ـ وهذه الفكرة لم تكن لا في الكتاب، ولا في السنّة، ولا في سيرة رسول اللّه، ولا في سيرة أبي بكر، وحتّى في سيرة عمر نفسه حتّى سنة 23، إلى قضيّة منى، نريد أن نعرف من هؤلاء القائلون؟
لاحظوا كتاب [مقدمة فتح الباري]، فابن حجر العسقلاني له مقدمة لشرحه فتح الباري، في مجلَّد ضخم، في هذه المقدّمة أبواب وفصول، أحد فصولها لتعيين المبهمات. يعني الموارد التي فيها كلمة فلان وفلان، يحاول ابن حجر العسقلاني أن يعيّن مَن فلان، فاستمعوا إليه يقول:
لم يُسمّ القائل [فقال قائل منهم] ولا الناقل، ثمّ وجدته في الأنساب للبلاذري، بإسناد قوي، من رواية هشام بن يوسف، عن معمر، عن الزهري بالإسناد المذكور في الأصل [أي في البخاري نفسه] ولفظه: قال عمر: بلغني أنّ الزبير قال: لو قد مات عمر بايعنا عليّاً.
هذا الزبير نفسه الذي كان في قضيّة السقيفة في بيت الزهراء، وخرج مصلتاً سيفه، وأحاطوا به، وأخذوا السيف من يده، إنه ينتظر الفرصة، فهو لم يتمكّن في ذلك الوقت أن يفعل شيئاً لصالح أمير المؤمنين وما يزال ينتظر الفرصة.
لاحظوا، هنا أقوال أُخرى في المراد من فلان وفلان، لكن السند القوي الذي وافق عليه ابن حجر العسقلاني وأيّده هذا، وأنا لا أنفي الأقوال الأخرى، لأنّ الزبير وعليّاً لم يكونا وحدهما في منى، وإنّما كانت هناك جلسة، فكان مع الزبير ومع علي غيرهما من عيون الصحابة وأعيان الأصحاب.
لاحظوا الأقوال الأُخرى أقرأ لكم نصّ العبارة، يقول ابن حجر العسقلاني:
وقد كرّر في هذا الفصل حديث ابن عباس عن عمر في قصّة السقيفة فيه، فقال عبد الرحمن بن عوف: لو رأيت رجلاً أتى أمير المؤمنين [إذن، عندنا كلمة: رجلاً ]فقال يا أمير المؤمنين هل لك في فلان [هذا صار اثنين] يقول: لو قد مات عمر لبايعت فلاناً.
صار ثلاثة: رجل، فلان، فلان. من هم؟
يقول: في مسند البزّار، والجعديات، بإسناد ضعيف أنّ المراد بالذي يبايع له طلحة بن عبيد اللّه.
إذن، طلحة أيضاً بحسب هذه الرواية كان ممّن ينتظر فرصة موت عمر لأن يبايع له.
لاحظوا كلام ابن حجر: ولم يسمّ القائل ولا الناقل، ثمّ وجدته بالإسناد المذكور في الأصل ولفظه قال عمر: بلغني أنّ الزبير قال لو قد مات عمر بايعنا عليّاً… يقول: فهذا أصح.
وفيه: فلمّا دنونا منهم لقينا رجلان صالحان، هما عوين بن ساعدة ومعد بن عدي، سمّاهما المصنّف ـ أي البخاري ـ في غزوة بدر، وكذا رواه البزّار في مسند عمر، وفيه ردّ على من زعم كذا.
ثمّ يقول: وأمّا القائل: قتلتم سعداً فقيل أو قال قائل: قتلتم سعداً، فلم أعرفه، لم أعرف من القائل قتلتم سعداً.
هذا في [مقدمة فتح الباري في شرح صحيح البخاري](2).
وفي بعض المصادر: أنّ القائل عمّار بدل الزبير، هذا راجعوا فيه الطبري وابن الأثير.
أمّا ابن حجر نفسه، ففي [فتح الباري بشرح البخاري]، الجزء الثاني عشر، حيث يشرح الحديث ـ تلك كانت المقدمة أمّا حيث يشرح الحديث ـ لا يصرّح بما ذكره في المقدّمة، ولا أعلم ما السبب؟ لماذا لم يصرّح البخاري في المتن وفي أصل الكتاب، ولا ابن حجر العسقلاني في شرح البخاري، بما صرّح به في المقدمة.
ثمّ إنّه يشرح جملة: هل لك في فلان، يقول: لم أقف على اسمه أيضاً، ووقع في رواية ابن إسحاق أنّ من قال ذلك كان أكثر من واحد.
وهذا ما ذكرته لكم من أنّ القول ليس قول شخص واحد، بل أكثر من واحد، لأنّهم كانوا جماعة جالسين، وطُرحت هذه النظريّة والفكرة في تلك الجلسة، ولذا غضب عمر.
قوله: لقد بايعت فلاناً، هو طلحة بن عبيد اللّه أخرجه البزّار من طريق أبي معشر عن زيد بن أسلم عن أبيه. إنتهى.
أمّا خبر البلاذري الذي هو أصحّ وقد روي بسند قوي، فلا يذكره في شرح الحديث، فراجعوا(3).
لكن عندما نراجع القسطلاني في شرح الحديث، في الجزء العاشر من [إرشاد الساري]، نجده يذكر ما ذكره ابن حجر في المقدمة في شرح الحديث، فيقول: لو قد مات عمر لبايعت فلاناً: قال في المقدمة ـ يعني قال ابن حجر العسقلاني في مقدمة فتح الباري ـ : في مسند البزّار والجعديات بإسناد ضعيف: إنّ المراد… قال ثمّ وجدته في الأنساب للبلاذري بإسناد قوي من رواية هشام ابن يوسف عن معمَر عن الزهري بالإسناد المذكور في الأصل ولفظه: قال عمر بلغني أنّ الزبير قال: لو قد مات عمر لبايعنا عليّاً… الحديث، وهذا أصحّ(4).
ويقول القسطلاني: وقال في الشرح قوله: لقد بايعت فلاناً هو طلحة بن عبيد اللّه، أخرجه البزّار، قرأنا هذا من شرح البخاري لابن حجر، ثمّ ذكر: قال بعض الناس لو قد مات أمير المؤمنين أقمنا فلاناً، يعنون طلحة بن عبيد اللّه، ونقل ابن بطّال عن المهلّب أنّ الذي عنوا أنّهم يبايعونه رجل من الأنصار، ولم يذكر مستنده.
وهذه إضافة في شرح القسطلاني.
وأمّا إذا راجعتم شرح الكرماني، فلم يتعرّض لشيء من هذه القضايا أصلاً، وإنّما ذكر أنّ كلمة «لو» حرف يجب أن تدخل على فعل، فلماذا دخلت لو على حرف آخر «لو قد مات»، لماذا كلمة «لو» التي هي حرف دخلت على «قد» التي هي حرف؟ «لو» يجب أن تدخل على فعل، فلماذا دخلت على حرف؟
وهذا ما ذكره الكرماني في شرح الحديث، وكأنّه ليس هناك شيء أبداً.
وأمّا العيني ـ هذا العيني دائماً يتعقّب ابن حجر العسقلاني، لأنّ العسقلاني شافعي، والعيني حنفي، وبين الشوافع والحنفيّة خاصّةً في المسائل الفقهيّة خلاف شديد ونزاعات كثيرة ـ يتعقّب العيني دائماً ابن حجر العسقلاني، ولكن ليس هنا أيّ تعقيب، وحتّى أنّه لم يتعرّض للحديث الذي ذكره ابن حجر العسقلاني، وإنّما ذكر رأي غيره فلم يذكر شيئاً عن ابن حجر العسقلاني أصلاً، وإنّما جاء في [شرح العيني]: قوله: لو قد مات عمر، كلمة قد مقحمة، لأنّ لو يدخل على الفعل، وقيل قد في تقدير الفعل، ومعناه لو تحقّق موت عمر. قوله لقد بايعت فلاناً، يعني طلحة بن عبيد اللّه، وقال الكرماني: هو رجل من الأنصار، كذا نقله ابن بطّال عن المهلّب، لكن لم يذكر مستنده في ذلك.
وهذا غاية ما ذكره العيني في شرح البخاري.
فإلى الآن، عرفنا لماذا طرحت فكرة الشورى؟ وكيف طرحت؟ طرحت مع التهديد بالقتل، بقتل المبايع والمبايَع، وللكلام بقيّة.
(1) نعم، هذا من جملة، ما حاولوا عدم اطلاع الناس وعدم انتشار الخبر، أما لو أرادوا إذاعته، فإنّهم يكرّرون ذكره تحت عناوين مختلفة، وهذا موجود عند البخاري خاصّة في موارد، منها هذا المورد، فقارنوا بين كيفية إيراده في كتابه وبين كيفية إيراده ـ مثلاً ـ خبر خطبة أمير المؤمنين بنت أبي جهل الموضوع المكذوب، ليظهر لكم جانب آخر من جوانب ظلمهم لأهل البيت وتصرفاتهم في السنة النبوية وحقائق الدين وتاريخ الإسلام.
(2) هدى الساري: 337.
(3) فتح الباري 12 / 121.
(4) إرشاد الساري 10 / 19.