بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين من الأوّلين والآخرين.
موضوع البحث مسألة تفضيل الأئمّة على الأنبياء عليهم السّلام.
هذه المسألة مطروحة في كتب أصحابنا منذ قديم الأيّام، ولهم على هذا القول أو هذا الإعتقاد أدلَّتهم الخاصّة، ونحن جرياً على دأبنا في بحوثنا في هذه الليالي، حيث نستدلّ فقط بما ورد عن طرق أهل السنّة، وما يكون متّفقاً عليه بين الطرفين، ومقبولاً لدى الفريقين، جرياً على دأبنا هذا وسيرتنا هذه، نبحث في هذه المسألة على ضوء الأحاديث الواردة عند الطرفين والمقبولة عند الفريقين. وإن كان لأصحابنا أدلّتهم على هذه المعتقدات، وهم مستغنون عن دلالة دليل من خارج كتبهم، وغير محتاجين إلى الاستدلال على معتقداتهم بما عند الآخرين، إلاّ أنّ هذه الجلسات وهذه البحوث بُنيت على أن تكون بهذا الشكل الذي ذكرته لكم.
يمكن الاستدلال لتفضيل الأئمّة سلام اللّه عليهم على الأنبياء بوجوه كثيرة، منها الوجوه الأربعة الآتية:
الوجه الأوّل: مسألة المساواة بين أمير المؤمنين والنبي.
الوجه الثاني: تشبيه أمير المؤمنين بالأنبياء السابقين.
الوجه الثالث: كون علي أحبّ الخلق إلى اللّه مطلقاً.
الوجه الرابع: صلاة عيسى خلف المهدي.
هذه هي الوجوه الأربعة، وعندنا وجوه أُخرى أيضاً، لكنّي أكتفي بهذه الوجوه وأُبيّنها لكم على ضوء الكتاب، وعلى ضوء السنّة المقبولة عند الفريقين.
المساواة بين أمير المؤمنين والنبي إلاّ النبوّة
نستدّل لذلك بالكتاب أوّلاً، بآية المباهلة، وقد درسنا آية المباهلة بالتفصيل في ليلة خاصة، وتقدّم البحث هناك عن كيفيّة دلالة قوله تعالى: (وَأَنْفُسَكُمْ)(1) على المساواة بين أمير المؤمنين والنبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم.
ولمّا كان نبيّنا أفضل من جميع الأنبياء السابقين بالكتاب وبالسنّة وبالإجماع، فيكون عليّ أيضاً كذلك، وهذا الوجه ممّا استدلّ به علماؤنا السابقون، لاحظوا [تفسير] الفخر الرازي، وغيره، حيث يذكرون رأي الإماميّة واستدلالهم بهذه الآية المباركة على أفضليّة أمير المؤمنين على الأنبياء السابقين.
يقول الرازي ـ في ذيل آية المباهلة ـ : كان في الري رجل يقال له محمود بن الحسن الحمصي، وكان معلّماً للإنثى عشريّة، وكان يزعم أنّ عليّاً أفضل من جميع الأنبياء سوى محمّد.
قال: والذي يدلّ عليه قوله: (وَأَنْفَسَنا وَأنْفُسَكُمْ)، وليس المراد بقوله: (وَأنْفُسَنَا) نفس محمّد صلّى اللّه عليه وآله وسلم، لأنّ الإنسان لا يدعو نفسه، بل المراد به غيره، وأجمعوا على أنّ ذلك الغير كان علي بن أبي طالب، فدلّت الآية على أنّ نفس عليّ هي نفس محمّد، ولا يمكن أن يكون المراد منه أنّ هذه النفس هي عين تلك النفس، فالمراد أنّ هذه النفس مثل تلك النفس، وذلك يقتضي الاستواء في جميع الوجوه. ترك العمل بهذا العموم في حقّ النبوّة، وفي حقّ الفضل أي الأفضليّة، لقيام الدلائل على أنّ محمّداً كان نبيّاً وما كان علي كذلك، ولانعقاد الإجماع على أنّ محمّداً كان أفضل من علي، فيبقى فيما وراءه معمولاً به، ثمّ الإجماع دلّ على أنّ محمّداً كان أفضل من سائر الأنبياء، فيلزم أن يكون عليّ أفضل من سائر الأنبياء. فهذا وجه الاستدلال بظاهر الآية المباركة(2).
والشيخ محمود بن الحسن الحمصي من علماء القرن السابع، له كتاب المنقذ من الضلال، وطبع هذا الكتاب أخيراً وهو في علم الكلام.
ثمّ يقول الرازي في جواب هذا الاستدلال ـ لاحظوا الجواب ـ : والجواب: إنّه كما انعقد الإجماع بين المسلمين على أنّ محمّداً أفضل من علي، فكذلك انعقد الإجماع بينهم ـ أي بين المسلمين ـ قبل ظهور هذا الإنسان ـ أي الشيخ الحمصي ـ فالإجماع منعقد قبل ظهور هذا وقبل وجوده على أنّ النبي أفضل ممّن ليس بنبي، وأجمعوا ـ أي المسلمون ـ على أنّ عليّاً ما كان نبيّاً، فلزم القطع بأنّ ظاهر الآية كما أنّه مخصوص بحقّ محمّد، فكذلك مخصوص في حقّ سائر الأنبياء.
ويتلخّص الجواب: في دعوى إجماع عموم المسلمين على أنّ غير النبي لا يكون أفضل من النبي، وعلي ليس بنبي، فالاستدلال باطل.
ولو راجعتم [تفسير] النيسابوري أيضاً لوجدتم نفس الجواب، وكذا لو رجعتم إلى تفسير أبي حيّان الأندلسي [البحر المحيط].
النيسابوري يقول، وعبارته ملخّص عبارة الرازي: فأُجيب بأنّه كما انعقد الإجماع بين المسلمين على أنّ محمّداً أفضل من سائر الأنبياء، فكذا انعقد الإجماع بينهم على أنّ النبي أفضل ممّن ليس بنبي، وأجمعوا على أنّ عليّاً ما كان نبيّاً.
ونفس الكلام أيضاً تجدونه بتفسير أبي حيّان(3). وتفسير النيسابوري مطبوع على هامش تفسير الطبري(4).
فكان الجواب ـ إذن ـ دعوى إجماع عموم المسلمين قبل الشيخ الحمصي على أنّ من ليس بنبي لا يكون أفضل من النبي.
لو ثبت هذا الإجماع، أو كان مستنداً إلى أدلّة قطعيّة، ولم يكن في مقابله أدلّة قطعيّة، لسلّمنا ووافقنا على هذا الجواب.
ولكن القول بأفضليّة أئمّة أهل البيت على سائر الأنبياء سوى نبيّنا صلّى اللّه عليه وآله وسلم، هذا القول موجود بين علماء هذه الطائفة قبل الشيخ الحمصي، فأين دعوى الإجماع ـ إجماع المسلمين ـ قبل ظهور هذا الإنسان؟
الشيخ الحمصي ـ كما ذكرنا ـ وفاته في أوائل القرن السابع، لكن الاستدلال الذي ذكره الشيخ الحمصي إنّما أخذه من الشيخ المفيد، والشيخ المفيد وفاته سنة (413)، فقبل الشيخ الحمصي هذا القول موجود، وهذا الاستدلال مذكور بالكتب، على أنّا إذا راجعنا كلام الشيخ المفيد لوجدناه ينسب الاستدلال إلى من سبقه من العلماء، فهذا الاستدلال موجود من قديم الأيّام، وإذا كان الدليل هو الإجماع، إذن لا إجماع على أنّ غير النبي لا يكون أفضل من النبي، وليس للرازي ولا لغيره جواب غير الذي قرأته لكم.
وأمّا أدلّة المساواة بين أمير المؤمنين والنبي من السنّة، فهناك أحاديث كثيرة صحيحة ومعتبرة، متّفق عليها بين الطرفين، صريحة في هذا المعنى، أي في أنّ أمير المؤمنين والنبي متساويان، إلاّ في النبوة، لقيام الإجماع على أنّ النبوّة ختمت بمحمّد صلّى اللّه عليه وآله وسلم.
نذكر بعض الأحاديث:
منها: حديث النور: «خلقت أنا وعلي من نور واحد»(5)، ففي تلك الأحاديث يقول رسول اللّه: إنّ اللّه سبحانه وتعالى قسّم ذلك النور نصفين، فنصف أنا ونصف علي، ولمّا كان رسول اللّه أفضل البشر مطلقاً، فعلي كذلك، وقد قرأنا هذا الحديث.
ومن الأحاديث أيضاً قوله صلّى اللّه عليه وآله وسلم بالنص: «أنا سيّد البشر» تجدون هذا الحديث في [صحيح البخاري](6)، و[المستدرك](7)، و[مجمع الزوائد](8)، وإذا كان علي مساوياً لرسول اللّه بمقتضى حديث النور، وبمقتضى آية المباهلة، فعلي أيضاً سيّد البشر، وإذا كان سيّد البشر، فهو أفضل من جميع الأنبياء.
قوله صلّى اللّه عليه وآله وسلم: «أنا سيّد ولد آدم»، وهذا الحديث تجدونه في [صحيح مسلم](9)، و[سنن الترمذي](10)، و[مسند أحمد](11)، و[المستدرك](12)، و[مجمع الزوائد](13) وغير هذه المصادر.
وإذا كان عليّ عليه السّلام بمقتضى آية المباهلة وبمقتضى حديث النور مساوياً لرسول اللّه، فيكون سيّد ولد آدم.
(1) سورة آل عمران: 61.
(2) تفسير الرازي 8 / 81 .
(3) تفسير بحر المحيط 2 / 504.
(4) تفسير النيسابوري 2 / 179.
(5) ينابيع المودّة 2 / 303، 307، 308.
(6) صحيح البخاري 5 / 225.
(7) المستدرك على الصحيحين 1 / 30 و 4 / 573.
(8) مجمع الزوائد 10 / 377.
(9) صحيح مسلم 7 / 59، كتاب الفضائل باب تفضيل نبيّنا على جميع الخلائق.
(10) سنن الترمذي 4 / 370، 5 / 247.
(11) مسند أحمد 2 / 540، 3 / 2.
(12) المستدرك على الصحيحين 2 / 605، 3 / 124.
(13) مجمع الزوائد 8 / 254، 9 / 116، 131، 10 / 376.