العصمة و مسألة الجبر
أوضح علماؤنا أن هذه الحالة تجتمع تماماً مع ما ذهبت إليه الطائفة من أنْ لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين، وذلك: بأن العصمة تمسك المعصوم وتمنعه عن أي مناف، ولكن لا تلجؤه إلى الطاعة، ولا تلجؤه إلى ترك المعصية أو المنافي.
وهذا المعنى قد أشار إليه العلاّمة رحمه اللّه في تعريفه من جهتين:
الأولى: قوله «بالمكلف» حيث قال: العصمة لطف يفعله اللّه بالمكلف. فإنه يريد أن يفهمنا بأن المعصوم مكلَّف، أي إنه مأمور بالطاعة وترك المعصية، وأنه إذا أطاع يثاب، وإذا عصى يعاقب، ولذا جاء في القرآن الكريم: (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إلَيْهمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ)(1)، يعني: إن المرسلين كسائر أفراد أممهم مكلَّفون بالتكاليف، فلا يكون من هذه الناحية فرق بين الرسول وبين أفراد أمته، وعلى الرسول أنْ يعمل بالتكاليف، كما أن على كلّ فرد من أفراد الاُمّة أن يكون مطيعاً وممتثلاً للتكاليف، فلو كان المعصوم مسلوب القدرة عن المعصية وترك الطاعة، فلا معنى حينئذ للثواب والعقاب، ولا معنى للسؤال.
وقد بيّنا بالإجمال هذا المطلب في بحثنا عن آية التطهير.
والجهة الثانية الموجودة في كلام العلامة رحمه اللّه قوله: بحيث لا يكون له داع إلى ترك الطاعة وفعل المعصية.
ففي هذه العبارة إشارة إلى أن ترك الطاعة وفعل المعصية إنما يكون بداع نفساني يحمل الإنسان على الإطاعة، أو يحمل الإنسان على الإتيان بالمعصية وارتكابها، وهذا الإنسان قد أودع اللّه فيه سبحانه وتعالى مختلف القوى التي يستخدمها لأغراضه الصحيحة وغير الصحيحة، إلا أن العصمة تمسك المعصوم، بحيث لا يبقى له داع إلى ارتكاب المعصية أو ترك الطاعة والتكليف الشرعي.
ثم إن السيد الطباطبائي صاحب [لميزان] رحمه اللّه، عبّر عن هذا اللطف الإلهي بالموهبة، فالعصمة عبّر عنها بالموهبة الإلهيّة، وأرجع العصمة إلى العلم، وذكر أنها ـ أي العصمة ـ نوع من العلم والشعور يغاير سائر أنواع العلم، في أنه غير مغلوب لشيء من القوى الشعورية البتة، بل هي الغالبة القاهرة عليها المستخدمة إيّاها، ولذلك كانت تصون صاحبها من الضلال والخطيئة مطلقاً.
وإذا كانت العصمة راجعة إلى العلم، فيكون الأمر أوضح، لأن الإنسان إذا علم بقبح شيء فلا يريده، وإذا علم بالآثار المترتبة على الفعل الذي يريد أنْ يقدم عليه، وكانت تلك الآثار حسنةً فإنه يقدم، وإنْ كانت سيئة فإنه يحجم، فتكون العصمة حينئذ منبعثة عن العلم.
ويكون الفارق بين المعصوم وغير المعصوم: أن غير المعصوم لم يحصل له ذلك العلم الذي حصل عليه المعصوم، ولذا لا يبلغ كلّ أحد مرتبة العصمة، لعدم وجود العلم اللازم فيه، وعدم حصول ذلك العلم الخاص له، وكثير من الأشياء يعجز الإنسان عن درك حقائقها من محاسن ومساوي، أما إذا كان الإنسان عالماً وبتلك المرحلة من العلم، وكان عنده تلك الموهبة الإلهية ـ كما عبّر السيد الطباطبائي رحمه اللّه ـ فإنه يعلم بحقائق الأشياء ويمتنع صدور ما لا يجوز عنه.
ولابد من التحقيق الأكثر في نظرية السيد الطباطبائي رحمه اللّه، وأنه هل يريد أن العصمة منبعثة من العلم، وأنه هو المنشأ لهذه الحالة المعنوية الموجودة عند المعصوم، كما قرأنا في هذه العبارة، أو أنه يريد أنّ العصمة نفس العلم.
وعلى كلّ حال، فإن الإنسان إذا كان عالماً بحقائق الأشياء وما يترتب على كلّ فعل يريد أن يفعله، أو حتّى على كلّ نية ينويها فقط، عندما يكون عالماً ومطّلعاً على ما يترتب على ذلك، فسيكون عنده رادع على أثر علمه عن أنْ يقدم على ذلك العمل إذا كانت آثاره سيّئة، أو أنه سيقدم على العمل إذا كانت آثاره مطلوبة وحسنة.
(1) سورة الاعراف (7): 6.