الرجوع إلى أصحاب ابن تيميّة:
حينئذ ننتقل إلى أصحاب ابن تيميّة والمقرّبين منه وهم ثلاثة: الذهبي، وابن كثير، وابن القيّم.
الذهبي ذكرنا عبارته، ووجدناه لا يشير لا من قريب ولا من بعيد إلى ما ذكره ابن تيميّة، وكذا بترجمة المستعصم، فإذا راجعتم [سير أعلام النبلاء] حيث ذكر الواقعة ناقلاً شرحها عن جمال الدين سليمان بن رطنين الحنبلي، والظهير الكازروني، وغيرهما، ليس في ذلك ذكر لنصير الدين الطوسي أبداً(1).
أمّا ابن كثير، ابن كثير ولادته سنة 700 أي بعد الواقعة حدود الخمسين سنة ووفاته سنة 774، فقد ترجم لنصير الدين الطوسي، ولم ينسبه إلى شيء أو لم ينسب شيئاً ممّا ذكر ابن تيميّة إلى الخواجة نصير الدين، من الإخلال بالصلوات وشرب الخمر وارتكاب الفواحش، لم يذكر شيئاً من هذه أبداً، وإنّما ذكر ما نسب إليه من الإشارة على هولاكو بقتل الخليفة، بعبارة ظاهرة جدّاً في التشكيك في ذلك، وإليكم نصّ ما قاله ابن كثير في [تاريخه] في هذه القضية:
يقول: ومن الناس من يزعم أنّه ـ الخواجة نصير الدين ـ أشار على هولاكو خان بقتل الخليفة، فاللّه أعلم.
لا يقول أكثر من هذا، «ومن الناس من يزعم، واللّه أعلم».
ولابدّ وأنّه يقصد ابن تيمية من قوله: «من الناس».
ثمّ يقول بعد أن يذكر ذلك عن بعض الناس: وعندي أنّ هذا لا يصدر من عاقل ولا فاضل، وقد ذكره بعض البغاددة ]أي أهالي بغداد[ فأثنى عليه وقال: كان عاقلاً فاضلاً كريم الأخلاق، ودفن في مشهد موسى بن جعفر، في سرداب كان قد أُعدّ للخليفة الناصر لدين اللّه(2).
وهذا من جملة المواضع التي لا يوافق فيها ابن كثير شيخه ابن تيميّة.
يبقى ابن قيّم الجوزيّة، ابن قيّم الجوزيّة لم يتبع ابن تيميّة فقط، بل زاد على ما قال شيخه أشياء أُخرى أيضاً، لاحظوا عبارته بالنص عندما يذكر نصير الدين الطوسي يقول:
نصير الشرك والكفر والإلحاد، وزير الملاحدة النصير الطوسي، وزير هولاكو، شفى نفسه من أتباع الرسول وأهل دينه، فعرضهم على السيف حتّى شفى إخوانه من الملاحدة واشتفى هو، فقتل الخليفة المستعصم والقضاة والفقهاء والمحدّثين.
[كلمة «المحدثين» مادام هي بالنصب، لابد أنْ تقرأ الكلمة: قَتَلَ، أي قتل نصير الدين المستعصمَ والقضاةَ والفقهاء والمحدّثين. اللّهمّ إلاّ أنْ نرجع الضمير إلى هولاكو، لكن بأمر الخواجة نصير الدين].
واستبقى الفلاسفة والمنجّمين والطبايعيين والسحرة، ونقل أوقاف المدارس والمساجد والربط إليهم، وجعلهم خاصته وأولياءه، ونصَرَ في كتبه قدم العالم وبطلان المعاد وإنكار صفات الربّ جلّ جلاله من علمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره، واتّخذ للملاحدة مدارس، ورام جعل إشارات إمام الملحدين ابن سينا مكان القرآن، فلم يقدر على ذلك فقال: هي قرآن الخواص وذلك قرآن العوام، ورام تغيير الصلاة وجعلها صلاتين، فلم يتم له الأمر، وتعلّم السحر في آخر الأمر فكان ساحراً يعبد الأصنام(3)، انتهى.
ابن تيميّة قال: في آخر الأمر تاب نصير الدين الطوسي، قرأنا عبارته في أنّه في آخر الأمر تاب نصير الدين الطوسي وكان يصلّي وتعلّم الفقه وقرأ تفسير البغوي في آخر عمره.
وهذا يقول: تعلّم السحر في آخر الأمر، فكان ساحراً يعبد الأصنام!!
وإلى هنا تبيّن أنّ ما ينسب سابقاً ولاحقاً إلى الخواجة نصير الدين الطوسي ليس له سبب، سوى أنّ هذا الرجل العظيم، استفاد من تلك الظروف لِصالح هذا المذهب المظلوم، وتمكّن من تأليف كتابه [تجريد الإعتقاد]، وأصبح هذا الكتاب هو الكتاب الذي يدرّس في الأوساط العلميّة، وطرحت أفكار الإماميّة في الأوساط العلميّة، بعد أن لم تكن لأفكار هذه الطائفة أيّة فرصة، ولم يكن لآراء هذه الطائفة أيّ مجال لأن يذكر شيء منها في المدارس العلميّة والأوساط العلميّة، حينئذ، أصبح الآخرون عيالاً على الخواجة نصير الدين الطوسي في علم الكلام والعقائد، وبتبع كتاب التجريد أُلّفت كتبهم في العقائد، وهذا ممّا يغتاظ منه القوم، فهذا كان هو السبب العمدة لأنْ ينسب ما سمعتم إلى هذا الرجل العظيم.
وقد ثبت أنّ كلّ ما ينسب إليه باطل، ولا أساس له من الصحّة، استناداً إلى كلمات المؤرّخين من أهل السنّة أنفسهم، من ابن الفوطي الذي عاصر القضيّة وكان من الأسرى في الواقعة، ثمّ ابن الطقطقي ثمّ ابن كثير، ثمّ الذهبي، والصفدي، وابن شاكر الكتبي، وغيرهم، وهؤلاء كلّهم من أهل السنّة، وهكذا أبوالفداء، ولم ننقل شيئاً لتبرئة ساحة هذا الشيخ العظيم عن أحد من علماء الشيعة.
(1) سير أعلام النبلاء 23 / 181.
(2) البداية والنهاية 13 / 313.
(3) اغاثة اللهفان من مصائد الشيطان 2 / 324.