بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين من الأوّلين والآخرين.
وبعد، فإنّي أحمد اللّه سبحانه وتعالى على أنْ وفّقني لهذه البحوث في هذه الليالي المباركة، بطلب من «مركز الأبحاث العقائديّة»، وكانوا قد طلبوا منّي أن أبحث عن الموضوعات التي عيّنوها هم، وبطلب منهم، وعلى أن تكون البحوث على أساس الكتاب والسنّة المعتبرة المتّفق عليها بين المسلمين، ولذا فقد لاحظتم أنّي أثبتٌّ حتّى مسألة تفضيل الأئمّة على الأنبياء على أساس أحاديث الفريقين، وأثبتُ العصمة كما يقول بها أصحابنا على أساس أحاديث الفريقين.
وحاولت أن تكون الأدلّة التي أستند إليها من أقدم كتب أهل السنّة وأتقنها، حتّى في مسائل مظلوميّة الزهراء عليه السلام، لم أعتمد إلاّ على كتبهم وعلى أقدم المصادر الواصلة إلينا من مؤلّفاتهم ومصنّفاتهم، ونقلنا عنها ما جاء فيها من تلك القضايا، وما كنّا نتوقّع منهم أن ينقلوا أكثر من هذا فيما يتعلّق بالزهراء عليها السلام.
وأمّا في كتبنا، وما في رواياتنا، وعن أهل البيت فيما يتعلّق بالعصمة، وما يتعلّق بمظلوميّة الزهراء، وما يتعلّق بمسائل تفضيل الأئمّة على الأنبياء، وكذا ما يتعلّق بمسائل الإمامة وغير ذلك من المسائل، فلابدّ وأن نعقد مجالس وبحوثاً أُخرى، لأنْ تكون تلك الروايات محور بحوثنا في تلك الجلسات الأُخرى، إلاّ أنّ الإخوة في هذا المركز طلبوا منّي أن تكون المصادر سنّيّة فقط ولا أنقل شيئاً عن كتب أصحابنا، وقد لاحظتم أنّي وبحمد اللّه على التوفيق وفّقت لما كنّا نرمي إليه في هذه المجالس، وأرجو من اللّه سبحانه وتعالى أن تكون هذه المباحث معينة لمن يريد أن يبحث عن هذه القضايا بإنصاف، وأن تكون مفيدة له فى هذا المجال.
أساليب القوم في التحريف
كما لاحظتم في خلال البحوث أنّي تعرّضت ونبّهت على بعض التحريفات الواقعة منهم في نقل الأحاديث، وفي رواية الأخبار والقضايا والحوادث، ونبّهت أيضاً على أنّهم ـ أي أهل السنّة ـ حاولوا قدر الإمكان أن يتكتّموا على حقائق القضايا ولا ينقلوا لنا الحوادث كما وقعت، ومع ذلك فقد عثرنا على ما كنّا نريده من خلال رواياتهم والنظر في أخبارهم وكتبهم، ثمّ طلبتم أن أذكر موارد أُخرى من التحريفات في هذه اللّيلة، فأقول:
إنّ للقوم أساليب عديدة في ردّ ما يتعلّق بأهل البيت وبمسائل الإمامة، وكلّ ما يستدل به الإماميّة في بحوثهم.
فأوّل شيء نراه في كتبهم أنّهم يغفلون الخبر، ويحاولون التعتيم عليه وعدم نقله وعدم نشره، ولذا نرى أنّ كثيراً من الأخبار الصحيحة بأسانيدهم غير مخرّجة في الصحيحين، أو الصحاح الستّة من كتبهم، فأوّل محاولة منهم هي إغفال الأخبار الصحيحة التي يستند إليها الشيعة فلا ينقلونها.
ثمّ إذا نقلوا حديثاً يحاولون أن يحرّفوه، والتحريف يكون على أشكال في كتبهم.
تارة ينقلون الحديث مبتوراً وينقصون منه محلّ الاستدلال ومورد الحاجة، وتارة يبهمون في ألفاظه، فيرفعون الأسماء الصريحة ويضعون في مكانها كلمة فلان إبهاماً للأمر.
وتارة يحذفون من الخبر ويضعون في مكان المقدار المحذوف كلمة كذا وكذا.
وتارة نراهم يصحّفون الألفاظ.
فإن لم يمكنهم التلاعب بمتنه، انبروا للطعن في سنده، وحاولوا تضعيف الحديث أو تكذيبه.
فإن لم يمكنهم ذلك أيضاً، وضعوا في مقابله حديثاً آخر وادّعوا المعارضة بين الحديثين.
وهذه أساليبهم.
أمّا المستنسخون، والناشرون للكتب، والرواة لتلك الروايات والمؤلفات، فحدّث عنهم ولا حرج.
أتذكر أنّي رأيت في أحد المصادر، عندما يروي خبر مبيت أمير المؤمنين عليه السلام على فراش رسول اللّه في ليلة الهجرة، الرواية تقول: بات علي على فراش رسول اللّه، أتذكّر أنّه في أحد المصادر كلمة التاء بدّلها الناسخ باللام،التاء في (بات) بدّلها باللام.
ينقلون عن بعض الصحابة، وكما قرأنا في الجلسات الماضية، أنّهم كانوا يعرضون أولادهم على أمير المؤمنين، يأتون بأبنائهم ويوقفونهم على الطريق، فإذا مرّ أمير المؤمنين قالوا للولد: أتحبّ هذا؟ فإنْ قال: نعم، علم أنّه منه وإلاّ… .
فينقلون عن بعض الصحابة أنّهم كانوا يقولون ـ وهذا موجود في المصادر ـ : كنّا نبور أبناءنا بحبّ علي بن أبي طالب، نبور أي نختبر، نختبرهم نمتحنهم، لنعرف أنّهم من صلبنا أم لا، كنّا نبور أبناءنا بحبّ عليّ بن أبي طالب(1).
لاحظوا التصحيف: كنّا بنور إيماننا نحبّ علي بن أبي طالب.
الباء أصبحت نوناً، نبور أصبحت بنور، أبناءنا أصبحت إيماننا، كنّا بنور إيماننا نحبّ علي بن أبي طالب.
وهكذا يصحّفون الأخبار.
وإمّا أنْ يرفعوا الحديث أو قسماً من الحديث ويتركوا مكانه بياضاً، ويكتبون هاهنا بياض في النسخة، وهذا أيضاً كثير في كتبهم، هنا بياض في النسخة، لاحظوا المصادر، حتّى الكتب الكلاميّة أيضاً.
أتذكّر أنّ موضعاً من [شرح المقاصد] حذف منه مقدار، وقد كتب محقّقه أنّ هنا بياضاً في النسخة، وكذا في [تاريخ بغداد] للخطيب البغدادي، وفي [تاريخ دمشق] لابن عساكر، وغير هذه الكتب.
فهكذا يفعلون، وكلّ ذلك لئلاّ يظهر الحق، وما أكثر هذا.
ويا حبّذا لو انبرى أحد لجمع هذه القضايا وتأليف كتاب في ذلك.
وأمّا أنّكم لو قارنتم الطبعات الجديدة للكتب، وقابلتموها مع الطبعات السابقة، حتّى تفسير [الكشّاف] للزمخشري، له أبيات، أربع خمس أبيات في تفسيره، هي في بعض الطبعات غير موجودة، لأنّ تلك الأبيات فيها طعن على المذاهب الأربعة.
وهكذا في قضايا أُخرى.
وكثيراً ما ترى أنّ المؤلِّف اللاّحق يلخّص كتاب أحد السابقين، وليس الغرض من تلخيصه لذلك الكتاب إلاّ طرح ما في ذلك الكتاب ممّا يضرّ بأفكاره ومبادئه، والكتاب الأصلي ربّما يكون مخطوطاً، أو لربّما لا تعثر على نسخة منه أبداً، وقد حكموا عليه بالإعدام.
حتّى أنّ كتب أبي الفرج ابن الجوزي في القضايا التافهة طبعوها ونشروها، فله كتاب في أخبار المغفّلين، له كتاب في أخبار الحمقى، وأخبار الطفيليين، وكتبه من هذا القبيل طبعت.
لكنّ لابن الجوزي رسالة كتبها في تكذيب ما رووه من أنّ النبي (صلّى اللّه عليه وآله) قد صلّى خلف أبي بكر في تلك الصلاة التي جاء إلى المسجد بأمر من عائشة لا من الرسول، حتّى إذا إطّلع على ذلك خرج معتمداً على رجلين، ونحّى أبا بكر عن المحراب وصلّى تلك الصلاة بنفسه الشريفة، فيروون أنّ رسول اللّه اقتدى بأبي بكر في تلك الصلاة وصلّى خلفه.
فلابن الجوزي كتاب في تكذيب ما ورد في هذا الباب، أي في صلاة النبي خلف أبي بكر، هذه الرسالة لم ينشروها، وحتّى لم يكثّروا نسخها ولم يستنسخوها.
أتذكّر أنّي راجعت كتاباً أُلّف في مؤلّفات ابن الجوزي المخطوط منها والمطبوع، فلم يذكر لهذا الكتاب إلاّ نسخة واحدة، والحال أنّه يذكر لمؤلّفاته الأُخرى في مكتبات العالم نسخاً كثيرة.
ولماذا؟
لأنّهم يعلمون بأنّ تكذيب مثل هذا الخبر يضرّ باستدلالهم بصلاة أبي بكر المزعومة على إمامة أبي بكر بعد رسول اللّه.
وكم لهذه الأُمور من نظائر، ويا حبّذا لو تجمع في مكان واحد.
(1) شواهد التنزيل 1 / 449، النهاية في غريب الحديث 1 / 109، لسان العرب 4 / 87 .