البحث في سند الروايات
حينئذ، تصل النوبة إلى البحث عن سند تلك الروايات; لأنّ الرواية إنّما يصحّ الاستناد إليها في مسألة من المسائل، وفي أيِّ باب من الأبواب، إنّما يصحّ التمسّك برواية إذا ما تمّ سندها، وتمّت دلالتها على المدّعى.
فلو فرضنا أنّ الرواية لا تقبل الحمل على وجه من الوجوه المذكورة وغيرها من الوجوه، فحينئذ، تبقى الرواية ظاهرة في الدلالة على نقصان القرآن، فتصل النوبة إلى البحث عن سندها.
هنا نقطة الخلاف بيننا وبين أهل السنّة، ومع الأسف، فإنّنا وجدنا الروايات التي تدّل دلالة واضحة على نقصان القرآن ولا تقبل الحمل على شيء من الوجوه الصحيحة أبداً، وجدنا تلك الروايات كثيرةً عدداً وصحيحة سنداً في كتب أهل السنّة.
اللهمّ، إلاّ أن نجد في المعاصرين ـ كما نجد مَن يقول بما نقول ـ بأنْ لا كتاب صحيح عند أهل السنّة من أوّله إلى آخره أبداً(1)، ونحن أيضاً منذ اليوم الأوّل قلنا بالنسبة إلى كتبهم: إنّهم تورّطوا عندما قالوا بصحّة الكتب الستة ولا سيّما الصحيحين، ولا سيّما البخاري، بناءاً على المشهور بينهم حيث قدّموه على كتاب مسلم، وقالوا بأنّه أصحّ الكتب بعد القرآن المجيد، تورّطوا في هذا.
نعم، نجد الآن في ثنايا كتب المعاصرين، وفي بعض المحاضرات التي تبلغنا عن بعضهم، أنّهم ينكرون أو ينفون القول بصحّة الكتابين أيضاً، وهذا يفتح باباً لهم، كما يفتح باباً لنا.
وأمّا بناءاً على المشهور بينهم من صحّة الصحيحين والكتب الأربعة الأُخرى، بالإضافة إلى كتب وإن لم تسمّ بالصحاح، إلاّأنّهم يرون صحّتها ككتاب المختارة للضياء المقدسي، الذي يرون صحّته، والمستدرك على الصحيحين، حيث الحاكم يراهُ صحيحاً، وغيره أيضاً، ومسند أحمد بن حنبل الذي يصرّ بعض علمائهم(2) على صحّته من أوّله إلى آخره، وهكذا كتب أُخرى.
فماذا يفعلون مع هذه الروايات؟ وماذا يقولون؟ روايات لا ريب في دلالتها على التحريف، يعني: كلّما حاولنا أن نحملها على بعض المحامل الصحيحة ونوجّهها التوجيه الصحيح، لا نتمكّن… .
أمّا نحن، فقد تقرّر عندنا منذ اليوم الأوّل، أنْ لا يوجد كتاب صحيح من أوّله إلى آخره سوى القرآن، هذا أوّلاً.
وثانياً: تقرّر عندنا أنّ كلّ رواية خالفت القرآن الكريم فإنّها تطرح… نعم، كلّ خبر خالف الكتاب بالتباين فإنّه يطرح، إن لم يمكن تأويله، وفرضنا أنّ هذا القسم الأخير لا يمكن تأويله.
نعم، في رواياتنا ـ ونحن لا ننكر ـ توجد روايات شاذة، قليلة جدّاً، هذه لا يمكن حملها على بعض المحامل، لكن هذه الروايات أعرض عنها الأصحاب، السيّد المرتضى رحمة اللّه عليه المتوفى قبل ألف سنة تقريباً يدّعي الإجماع على عدم نقصان القرآن، فهو مع وجود هذه الروايات الشاذة، يدّعي الإجماع على ذلك(3)، فيدّل على إعراضهم عن هذه الروايات وعدم الإعتناء بها، وكذلك الطبرسي في [مجمع البيان](4)، والشيخ الطوسي في [التبيان](5)، وهكذا كبار علمائنا(6).
والأهمّ من ذلك كلّه، لو أنّكم لاحظتم كتاب [الإعتقادات] للشيخ الصدوق، فنصّ عبارته «ومن نسب إلينا أنّا نقول إنّه ـ إي القرآن ـ أكثر من هذا الموجود بين أيدينا فهو كاذب»(7).
مع العلم بأنّ الصدوق نفسه يروي بعض الروايات الظاهرة في النقصان في بعض كتبه، وقد تقرّر عندنا في الكتب العلمية أنّ الرواية أعمّ من الاعتقاد، ليس كلّ راو لحديث يعتقد بما دلّ عليه ذلك الحديث، ويشهد بذلك عبارة الصدوق رحمة اللّه عليه الذي هو رئيس المحدّثين، فإنّه قد يروي بعض الروايات التي هي بظاهرها تدلّ على نقصان القرآن، لكنّه يقول: من نسب إلينا أنّا نقول بأنّ القرآن أكثر ممّا هو الآن بأيدينا فهو كاذب علينا.
إذن، لا يقول بمضامين هذه الروايات، فهذه نقطة أُخرى.
لقد تتبّعت كتبنا منذ القديم، كتبنا في الحديث، كتبنا في التفسير، كتبنا في علوم الحديث، وفي الأصول أيضاً، وفي الفقه أيضاً في أبواب القراءة حيث تطرح مسألة نقصان القرآن، فلم أجد من علمائنا الكبار الذين يُرجع إليهم ويعتمد عليهم في المذهب من يقول بنقصان القرآن بعدد أصابع اليد الواحدة.
إلاّ أنّك إذا راجعت كتاب البخاري الذي التزم فيه بالصحة، وإذا راجعت كتاب مسلم الذي التزم فيه بالصحة، والكتب الأُخرى، ككتاب مسند أحمد وغيره وغيره… بل لقد ذكرت في كتابي في هذا الموضوع اسم أربعين عالماً من كبار علماء القوم، في مختلف القرون، يروون أحاديث التحريف، ومن بينهم أكثر من عشرة يلتزمون بصحّة تلك الأحاديث التي رووها في كتبهم(8)، فلو أردنا أن ننسب هذا القول إلى قوم من المسلمين فبالأحرى أن ينسب إلى… .
أمّا نحن، فلا نقول هكذا; لأنّه قد قلنا إنّ البحث على صعيد الأقوال يجب أن لا يختلط بالبحث على صعيد الأحاديث، ففي الأقوال نجدهم أيضاً يدّعون الإجماع على عدم نقصان القرآن.
إذن، القرآن غير ناقص، لا عندنا ولا عندهم، ولو كان هناك قول فهو قول شاذّ منّا ومنهم، لكن الروايات عندهم كثيرة، وهي عندهم صحيحة، أكثرها عن عمر بن الخطّاب، وعن عائشة، وعن أبي موسى الأشعري، وعن زيد بن ثابت، وعن عبد اللّه بن العباس، وعن جماعة آخرين من كبار القرّاء عندهم، من أُبي بن كعب، وعبد اللّه بن مسعود، هو يروون تلك الأحاديث، ولا يوجد عُشر أعشارها في كتبنا.
إلاّ أنّ الطريق الصحيح أن نقول ببطلان هذه الأحاديث كما يقولون، ويبقى عليهم أن يرفعوا اليد عن صحّة الصحيحين والصحاح الستّة، فلو رفعوا اليد عن هذا المبنى المشتهر بينهم، وأيضاً رفعوا اليد عمّا اشتهر بينهم من عدالة الصحابة أجمعين، فلو أنّا وجدناهم لا يقولون بعدالة الصحابة، ووجدناهم لا يقولون بصحّة الصحيحين أو الصحاح، ارتفع النزاع بيننا وبينهم; لأنّ النزاع سيبقى في دائرة الروايات الموجودة في كتبهم، إذ المفروض أنّهم على صعيد الأقوال لا يقولون بتحريف القرآن، وإنْ كنت عثرت على أقوال أيضاً منهم صريحة في كون القرآن ناقصاً(9).
(1) أضواء على السنّة المحمدية: 297 ـ 330، حيث بين عدم صحة كتب الحديث واختلافها، ونسب إلى محمد رشيد رضا، وأحمد أمين، وشكيب أرسلان، وأحمد محمد شاكر اعترافهم أيضاً بعدم صحة كتب الحديث من الجلد إلى الجلد بما فيها البخاري ومسلم.
(2) أنظر: الحديث والمحدّثون: 370.
(3) نقله عنه الطبرسي في مجمع البيان 1 / 18.
(4) مجمع البيان 1 / 18.
(5) التبيان في تفسير القرآن 1 / 3 و4.
(6) ممّن صرّح بالإجماع على عدم تحريف القرآن الشيخ جعفر الجناحي كاشف الغطاء في كشف الغطاء 3 / 453، كتاب القرآن، المبحث السابع والمبحث الثامن، الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء في أصل الشيعة واصولها: 220، مبحث النبوة.
(7) الاعتقادات للصدوق (ضمن مصنفات الشيخ المفيد رحمه اللّه: 84) وقال قبل هذا الكلام ما نصّه: «إعتقادنا أنّ القرآن الذي أنزله اللّه على نبيّه محمّد (صلى اللّه عليه وآله) هو ما بين الدفتين. وهو ما في أيدي الناس ليس بأكثر من ذلك…».
(8) التحقيق في نفي التحريف عن القرآن الشريف: 177 ـ 192.
(9) أنظر: تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن) 1 / 81، حيث نقل عن ابن الأنباري نسبة القول بكون القرآن ناقصاً إلى أحد العلماء في زمانه، وإعجاز القرآن: 42، حيث نسب القول بسقوط شيء من القرآن إلى جماعة من أهل الكلام، ومناهل العرفان في علوم القرآن 1 / 167 ـ 170، حيث نسبه إلى جمهور أهل الفقه والحديث منهم سفيان، وابن وهب، وابن جرير الطبري، والطحاوي.