الاستدلال بالقرآن على المسح
أمّا في الكتاب، فقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلى الْكَعْبَيْنِ)(1).
ومحل الشاهد والاستدلال في هذه الآية كلمة (وَأَرْجُلَكُمْ).
في هذه الكلمة ثلاث قراءات، قراءتان مشهورتان: الفتح والجر (وَأَرْجُلَكُمْ)(وَأَرْجُلِكُمْ)، وقراءة شاذّة وهي القراءة بالرفع:(وَأَرْجُلُكُمْ).
القراءة بالرفع وصفت بالشذوذ: يقال: إنّها قراءة الحسن البصري وقراءة الأعمش، ولا يهمّنا البحث عن هذه القراءة، لأنّها قراءة شاذّة، ولو أردتم الوقوف على هذه القراءة ومن قرأ بها، فارجعوا إلى [تفسير القرطبي](2)، وإلى [أحكام القرآن] لابن العربي المالكي(3) وإلى غيرهما من الكتب، كتفسير الآلوسي، وتفسير أبي حيّان [البحر المحيط]، يمكنكم الوقوف على هذه القراءة.
والوجه في الرفع (وَأَرْجُلُكُمْ) قالوا بأنّ الرفع هذا على الإبتداء (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلُكُمْ) هذا مبتدأ يحتاج إلى خبر، فقال بعضهم: الخبر: مغسولة، وأرجلكم مغسولة، فتكون هذه الآية بهذه القراءة دالّة على وجوب الغسل.
لاحظوا كتاب ]إملاء ما منّ به الرحمن في إعراب القرآن[ لأبي البقاء، وهو كتاب معتبر، هُناك يدّعي بأنّ كلمة (وَأَرْجُلُكُمْ) بناء على قراءة الرفع مبتدأ والخبر مغسولة، فتكون الآية دالّة على وجوب الغسل(4).
لكنّ الزمخشري(5) وغيره من كبار المفسّرين يقولون بأنّ تقدير مغسولة لا وجه له، لأنّ للطرف الآخر أن يقدّر ممسوحة.
ومن هنا يقول الآلوسي(6): وأمّا قراءة الرفع فلا تصلح للاستدلال للفريقين، إذ لكلّ أن يقدّر ما شاء، القائل بالمسح يقدّر ممسوحة، والقائل بالغسل يقدّر مغسولة.
نرجع إلى القراءتين المشهورتين أو المتواترتين، بناء على تواتر القراءات السبع.
أمّا قراءة الجر (وَأَرْجُلِكُمْ) فوجهها واضح، لأنّ الواو عاطفة، تعطف الأرجل على الرؤوس، الرؤوس ممسوحة فالأرجل أيضاً ممسوحة (وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ)، بناء على هذه القراءة حيث الواو عاطفة، والأرجل معطوفة على الرؤوس، تكون الآية دالّة على المسح بكلّ وضوح.
أمّا بناء على القراءة بالنصب (وَأَرْجُلَكُمْ) الواو عاطفة، و(أرجلكم) معطوفة على محلّ الجار والمجرور، أي (برؤوسكم) وهو منصوب، والعطف على المحلّ مذهب مشهور في علم النحو وموجود، ولا خلاف في هذا على المشهور بين النحاة، وكما أنّ الرؤوس ممسوحة، فالأرجل أيضاً تكون ممسوحة.
فبناء على القراءتين المشهورتين، تكون الآية دالّة على المسح دون الغسل.
وهذا ما يدّعيه علماء الإماميّة في مقام الاستدلال بهذه الآية المباركة.
ولننظر هل لأهل السنّة أيضاً رأي في هاتين القراءتين أم لا؟ وهل علماؤهم يوافقون على هذا الاستنتاج، بأنْ تكون القراءة بالنصب والقراءة بالجرّ ـ كلتا القراءتان ـ تدلاّن على وجوب المسح دون الغسل أم لا؟
أمّا الإمامية فلهم أدلّتهم، وهذا وجه الاستدلال عندهم بالآية المباركة كما قرأنا.
وأمّا أهل السنّة، فإنكم تجدون الاعتراف بدلالة الآية المباركة ـ على كلتا القراءتين ـ على وجوب المسح دون الغسل، تجدون هذا الاعتراف في الكتب الفقهيّة، وفي الكتب التفسيريّة، بكلّ صراحة ووضوح، وأيضاً في كتب الحديث من أهل السنّة، أعطيكم بعض المصادر: [المبسوط] في فقه الحنفيّة للسرخسي(7)، [شرح فتح القدير] في الفقه الحنفي(8)، [المغني] لابن قدامة في الفقه الحنبلي(9)، [تفسير الرازي](10)، [غنية المتملّي](11)، [حاشية السندي] على سنن ابن ماجة(12)، [تفسير القاسمي](13).
هذه بعض المصادر التي تجدون فيها الاعتراف بدلالة الآية المباركة على كلتا القراءتين بوجوب المسح، وحتّى أنّ الفخر الرازي يوضّح هذا الاستدلال، ويفصّل الكلام فيه ويدلّل عليه ويدافع عنه، وكذا غير الفخر الرازي في تفاسيرهم.
وفي هذه الكتب لو نراجعها نرى أموراً مهمّة جدّاً:
الأمر الأول: إنّ الكتاب ظاهر ـ على القراءتين ـ في المسح على وجه التعيين.
الأمر الثاني: يذكرون أسماء جماعة من كبار الصحابة والتابعين وغيرهم القائلين بالمسح دون الغسل، وسنذكر بعضهم.
الأمر الثالث: إنّهم يصرّحون بأنّ الكتاب وإنْ دلّ على المسح، فإنّا نقول بالغسل لدلالة السنّة على الغسل.
فإذن، يعترفون بدلالة الكتاب على المسح، إلاّ أنّهم يستندون إلى السنّة في القول بوجوب الغسل.
لكنّ الملفت للنظر أنّهم يعلمون بأنّ الاستدلال بالسنّة للغسل سوف لا يتمّ، لوجود مشكلات لابدّ من حلّها وبعضها غير قابلة للحلّ، فالاستدلال بالسنّة على وجوب الغسل لا يتم، والاعتراف بدلالة الآية على وجوب المسح ينتهي إلى ضرورة القول بوجوب المسح، لدلالة الكتاب ولعدم دلالة تامّة من السنّة، حينئذ يرجعون ويستشكلون ويناقشون في دلالة الكتاب على المسح.
(1) سورة المائدة (5): 6.
(2) تفسير القرطبي 6 / 91.
(3) أحكام القرآن لابن العربي 2 / 576.
(4) إملاء ما منّ به الرحمان 1 / 209.
(5) تفسير الزمخشري 1 / 598.
(6) روح المعاني 3 / 251.
(7) المبسوط في فقه الحنفيّة 1 / 8 .
(8) شرح فتح القدير لابن همام 1 / 11.
(9) المغني في الفقه 1 / 123.
(10) تفسير الرازي 11 / 161.
(11) غنية المتملّي: 16.
(12) حاشية السندي 1 / 88 .
(13) تفسير القاسمي (محاسن التأويل) 6 / 112.