وجود حركة النفاق في زمن الرسول
ويدلّ هذا الحديث وتلك القصة على وجود حركة النفاق في زمن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، وبين المقرّبين من أصحابه، حتّى بين بعض قوّاد جيوشه، فلا يقال: بأنّ النفاق كان يختصّ بعبداللّه بن أُبي وأمثاله من المنافقين المعروفين المشهورين الذين كان يشار إليهم بالبنان، وقد عُرفوا بالنفاق بين جميع الناس.
إنّ هذه القصة تكشف لنا خفايا حالات المقرّبين من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله.
وكم كنت أُحبّ أنْ أعرف الثلاثة الآخرين الذين جاءوا من اليمن مع بريدة إلى المدينة قبل أن يرجع الجيش، أرسلهم خالد بن الوليد بلا علم من أمير المؤمنين، وإنْ كنت قد وجدت اسم واحد أو اثنين منهم!
وأيضاً، كم كنت أُحبّ أنْ أعرف أُولئك الذين كانوا جالسين على باب النبي صلّى اللّه عليه وآله، واستقبلوا بريدة ومن معه، وكأنّ هناك تنسيقاً بين خالد وأصحابه، وبين أُولئك الذين كانوا عند النبي وعلى بابه!
خالد بن الوليد ـ كما في صريح القصّة ـ كان يبغض عليّاً، ويعترف عليه بهذا المعنى بريدة بن الحصيب، ويقرّ على نفسه أيضاً، فيظهر أنّ خالد بن الوليد كان عدوّاً لعلي منذ حياة رسول اللّه.
وخالد هذا هو الذي أرسله أبو بكر إلى القبائل العربية التي أبت أن تبايع أبا بكر وامتنعت من دفع الزكاة إليه، وأعلنت عن اعتقادها بإمامة علي عليه السّلام لكونهم قد بايعوه يوم غدير خم!
وخالد هذا هو الذي أمره أبو بكر بأن يقتل عليّاً في أثناء الصلاة، ثمّ لمّا ندم على ذلك قبل أن يسلّم قال: يا خالد لا تفعل ما أمرتك به.
وخالد هذا من جملة المهاجمين على دار علي والزهراء في قضية السقيفة.
فقد كان أبو بكر يعرف من يرسل لقتل أنصار أمير المؤمنين، ويعرف من يكلّف بقتل الإمام في أثناء الصلاة، ولولا هذا الخبر الذي وجدناه في كتاب ]الأنساب[(1) للسمعاني، يذكر لنا حضور علي في صلاة أبي بكر، وأنّ أبا بكر قد أمر خالداً بأنْ يقتل عليّاً في أثناء الصلاة، لولا هذا الخبر المشتمل على هذه الفائدة الكبيرة ـ لا أتذكّر الآن حديثاً في كتاب معتبر لأهل السنّة يعتمد عليه، يدلّ على أنّ عليّاً كان ملتزماً بالحضور للصلاة مع أبي بكر أو غيره من الصحابة، ولو وجدتم فأخبروني، أكون لكم من الشاكرين ـ الذي وجدناه إلى الآن هذا الخبر، وهو يفيدنا: إنّ أبا بكر أمر خالداً أنْ يقتل عليّاً وهو يصلّي خلفه في أثناء الصلاة! وهو في مسجد رسول اللّه! ثمّ إنّه ندم على ذلك، وقبل أنْ يسلّم قال: يا خالد لا تفعل ما أمرتك.
وهذا قد لا يراه أحد، لأنّ كتاب الأنساب للسمعاني ليس بكتاب حديث، ولا يوجد مثل هذا الخبر في شيء من الصحاح والمسانيد والسنن ومعاجم الحديث، ولكنّ اللّه شاء أنْ يصلنا ولو في كتاب في الرجال، ولو من ناحية من يتّهمونه بالتشيّع ـ وهو عبّاد بن يعقوب الرواجني ـ يتّهمونه بالتشيّع لروايته مثل هذه الأخبار، ممّا يدلّ على فضائل أمير المؤمنين، وبعض ما يسيء الآخرين.
وعلى كلّ حال، فخالد هذا وضعه، وهذا شأنه، أراد أن ينتهز تلك الفرصة، قضيّة أخذ أمير المؤمنين تلك الجارية، يقول الحديث: وكانت جارية حسناء ـ عندما قرأت هذه الكلمة، تذكّرت قضية زوجة مالك، فإنّ مالك بن نويرة عندما قبض عليه خالد وأمر بقتله، إلتفت إلى زوجته وقال: أنت التي قتلتيني(2)، وذلك لأنّها كانت من أجمل نساء العرب، وكان خالد يهواها، ولذا زنا بها في نفس الليلة التي قتل فيها مالكاً، وهذا ما أدّى إلى ضجّة شديدة بالمدينة المنوّرة بين عامة المسلمين ـ ففعل علي هذا، أي أخذ الجارية هذه من الخمس، وقال رسول اللّه: «إنّ له أكثر من ذلك»، وكان خالد يتصوّر بأنّه لو ينتهز هذه الفرصة، ويرسل هؤلاء الجماعة، ويكتب هذا الكتاب، وينسّق مع الموجودين في المدينة المنوّرة، الذين يفكّرون تفكيره ويخطّطون معه، ليستفيدوا من هذه القضية، ويحطّوا من منزلة علي عند رسول اللّه وعند المسلمين، وكأنّ في القضيّة مؤامرةً مدبّرة من هؤلاء المنافقين، ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ملتفت إلى جميع القضايا عالم بنوايا هؤلاء القوم، وهم لا يعلمون أنّه يسمع أصواتهم من وراء الباب، من وراء الجدار، وهم جالسون على بابه، فخرج صلّى اللّه عليه وآله والغضب يعرف في وجهه فقال: «ما تريدون من علي، ما تريدون من علي، دعوا عليّاً…».
وما زالت المؤامرات ضدّ علي وإلى يومنا هذا، وما زال علي مظلوماً حتّى مِن بعض من يدّعي الإنتساب إليه، وإلى متى؟ لكن اللّه شاء هذا، وشاءت المصلحة العامة أن يكون حال علي كحال هارون، وأن تكون منزلته من رسول اللّه منزلة هارون من موسى، كما سنقرأ في حديث المنزلة.
والخلاصة: إنّي أرى في هذه القضيّة خطّة مدبّرة ومؤامرة منسّقة مرتّبة بين الغائبين عن المدينة المنّورة والحاضرين هناك ضدّ أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام.
وقد انقلبت المؤامرة عليهم، وأصبحت القضية من جملة موارد إعلان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ـ من قبل اللّه سبحانه وتعالى ـ عن إمامة أمير المؤمنين، وولايته وعصمته، وعن أنّ كلّ من يبغض عليّاً عليه أن يستغفر، وعليه أن يجدّد إسلامه بعد استغفاره.
أرادوا أنْ ينتهزوا الفرصة ضدّ علي، فانتهزها رسول اللّه في صالح علي والإسلام، فكان حديث الولاية دالاًّ على إمامة أمير المؤمنين من جهات عديدة.
(1) الأنساب 3 / 95.
(2) تاريخ مدينة دمشق 16 / 285، سير أعلام النبلاء 1 / 377.