نصّ حديث المنزلة و تصحيحه
أمّا نصّ الحديث في [صحيح البخاري]:
حدّثنا محمّد بن بشّار، حدّثنا غندر، حدّثنا شعبة، عن سعد قال: سمعت إبراهيم بن سعد عن أبيه ]أي سعد بن أبي وقّاص[ قال النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لعلي: «أما ترضى أنْ تكون منّي بمنزلة هارون من موسى»(1).
قال: وحدّثنا مسدّد، حدّثنا يحيى، عن شعبة، عن الحكم، عن مصعب ـ مصعب بن سعد بن أبي وقّاص ـ عن أبيه: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم خرج إلى تبوك فاستخلف عليّاً فقال: أتكلّفني بالصبيان والنساء؟ قال: «ألا ترضى أنْ تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه ليس بعدي نبي»(2).
وأمّا مسلم، فإنّه يروي في ]صحيحه[ هذا الحديث بأسانيد عديدة لا بسند وسندين:
منها: ما يرويه بسنده عن سعيد بن المسيّب، عن عامر بن سعد بن أبي وقّاص، عن أبيه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لعلي: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي».
قال سعيد: فأحببت أنْ أُشافه بها سعداً، فلقيت سعداً فحدّثته بما حدّثني به عامر فقال: أنا سمعته، قلت: أنت سمعته؟ قال: فوضع إصبعيه على أُذنيه فقال: نعم، وإلاّ أُستكّتا(3).
في هذا الحديث، وفي هذا اللفظ نكت يجب الإلتفات إليها.
وبسند آخر في صحيح مسلم: عن بكير بن مسمار، عن عامر بن سعد بن أبي وقّاص، عن أبيه قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال: ما منعك أنْ تسبّ أبا التراب؟ فقال: أمّا ما ذكرت ثلاثاً قالهنّ له رسول اللّه فلن أسبّه…. فذكر الخصال الثلاث ومنها حديث المنزلة(4).
أقول: فهذا حديث المنزلة في الصحيحين، وأنتم تعلمون بأنّ المشهور بينهم قطعيّة أحاديث الصحيحين، فجمهورهم على أنّ جميع أحاديث الصحيحين مقطوعة الصدور، ولا مجال للبحث عن أسانيد شيء من تلك الأحاديث.
وللتأكّد من ذلك يمكنكم الرجوع إلى كتبهم في علوم الحديث، فراجعوا ـ مثلاً ـ كتاب ]تدريب الراوي في شرح تقريب النوّاوي[ للحافظ السيوطي، وبإمكانكم الرجوع إلى ]شروح ألفيّة الحديث[ كشرح ابن كثير وشرح زين الدين العراقيو غير ذلك، وحتّى لو راجعتم كتاب ]علوم الحديث[ لأبي الصلاح لرأيتم هذا المعنى، ويزيد شاه ولي اللّه الدهلوي في كتاب ]حجة اللّه البالغة[، وهو كتاب معتبر عندهم ويعتمدون عليه، يزيد الأمر تأكيداً عندما يقول ـ وبعد أنْ يؤكّد على وقوع الإتفاق على هذا المعنى ـ يقول: «اتفقوا على أنّ كلّ من يهوّن أمرهما ]أي أمر الصحيحين [فهو مبتدعٌ متبع غير سبيل المؤمنين»(5).
فمن يناقش في سند حديث المنزلة ـ بحكم هذا الكلام الذي ادّعى عليه الاتفاق شاه ولي اللّه دهلوي ـ فهو مبتدع متّبع غير سبيل المؤمنين.
وعندما تراجعون كتب الرجال، فهناك اتفاق بينهم على قبول من أخرج له الشيخان، حتّى أنّ بعضهم قال: من أخرجا له فقد جاز القنطرة!
ومن هنا، نراهم متى ما أعيتهم السبل في ردّ حديث يتمسّك به الإمامية على إثبات حقّهم أو على إبطال باطل، وعجزوا عن الجواب، يتذرّعون بعدم إخراج الشيخين له، ويتّخذون عدم إخراجهما للحديث ذريعة للطعن في ذلك الحديث الذي ليس في صالحهم.
أذكر لكم مثالاً واحداً، وهو حديث: «ستفترق أُمّتي على ثلاث وسبعين فرقة»، هذا الحديث بهذا اللفظ غير موجود في الصحيحين، لكنّه موجود في السنن الأربعة، يقول ابن تيميّة في مقام الردّ على هذا الحديث(6): الحديث ليس في الصحيحين ولكن قد أورده أهل السنن ورووه في المسانيد كالإمام أحمد وغيره.
ومع ذلك لا يوافق على هذا الحديث متذرّعاً بعدم وجوده في الصحيحين.
إلاّ أنّ الملفت للنظر لكلّ باحث منصف، أنّهم في نفس الوقت الذي يؤكّدون على قطعيّة صدور أحاديث الصحيحين، ويتخذون إخراج الشيخين لحديث أو عدم إخراجهما له دليلاً وذريعة ووسيلة لردّ الحديث أو قبوله، في نفس الوقت، إذا رأوا في الصحيحين حديثاً في صالح الإماميّة يخطّئونه ويردّونه وبكلّ جرأة.
ولذا لو راجعتم إلى كتاب ]التحفة الإثنا عشرية[(7) لوجدتم صاحب هذا الكتاب يبطل حديث هجر فاطمة الزهراء أبا بكر وأنّها لم تكلّمه إلى أن ماتت، يبطله ويردّه مع وجوده في الصحيحين.
وينقل القسطلاني في ]إرشاد الساري في شرح البخاري[(8)، وأيضاً ابن حجر المكي في كتاب ]الصواعق[(9)، ينقلان عن البيهقي أنّه ضعّف حديث الزهري الدالّ على أنّ عليّاً عليه السّلام لم يبايع أبا بكر مدّة ستّة أشهر، فالبيهقي يضعّف هذا الحديث ويحكي غيره كالقسطلاني وابن حجر هذا التضعيف في كتابه، مع أنه موجود في الصحيحين.
وقد رأيتم أنّ الحافظ أبا الفرج ابن الجوزي الحنبلي أدرج حديث الثقلين في كتابه ]العلل المتناهية في الأحاديث الواهية[، مع وجوده في صحيح مسلم، ومن هنا اعترض عليه غير واحد.
فيظهر: أنّ القضيّة تدور مدار مصالحهم، فمتى ما رأوا الحديث في صالحهم وأنّه ينفعهم في مذاهبهم، اعتمدوا عليه واستندوا إلى وجوده في الصحيحين، ومتى كان الحديث يضرّهم ويهدم أساساً من أُسس مذهبهم ومدرستهم، أبطلوا ذلك الحديث أو ضعّفوه مع وجوده في الصحيحين أو أحدهما.
وهذا ليس بصحيح، وليس من دأب أهل العلم وأهل الفضل، وليس من دأب أصحاب الفكر وأصحاب العقيدة الذين يبنون فكرهم وعقيدتهم على أُسس متينة، يلتزمون بها ويلتزمون بلوازمها.
وعندما نصل إلى محاولات القوم في ردّ حديث المنزلة أو المناقشة في سنده، سنرى أنّ عدّةً منهم يناقشون سند هذا الحديث أو يضعّفونه بصراحة، مع وجوده في الصحيحين، فأين راحت قطعية صدور أحاديث الصحيحين؟ وما المقصود من الإصرار على هذه القطعية؟
ونحن أيضاً لا نعتقد بقطعيّة صدور أحاديث الصحيحين، ونحن أيضاً لا نعتقد بوجود كتاب صحيح من أوّله إلى آخره سوى القرآن الكريم.
لكن بحثنا معهم، وإنّما نتكلّم معهم على ضوء ما يقولون وعلى أساس ما به يصرّحون.
فإذا جاء دور البحث عن سند حديث المنزلة، سترون أنّ عدّةً منهم من علماء الأصول ومن علماء الكلام يناقشون في سند حديث المنزلة ولا يسلّمون بصحّته، فيظهر أنّه ليس هناك قاعدة يلجأون إليها دائماً ويلتزمون بها دائماً، وإنّما هي أهواء يرتّبونها بعنوان قواعد، يذكرونها بعنوان أُسس، فيطبّقونها متى ما شاؤا ويتركونها متى ما شاؤا.
ولا بأس بذكر عدّة من ألفاظ حديث المنزلة في غير الصحيحين من الكتب المعروفة المشهورة، وفي كلّ لفظ أذكره توجد خصوصية أرجو أنْ لا تفوت عليكم، وأرجو أنْ تتأمّلوا فيها:
في ]الطبقات لابن سعد[، يروي هذا الحديث بطرق، ومنها: بسنده عن سعيد بن المسيّب، وهو نفس الحديث الذي قرأناه في صحيح مسلم، فقارنوا بين لفظه في الطبقات ولفظه في صحيح مسلم. يقول سعيد:
قلت لسعد بن مالك ـ هو سعد بن أبي وقّاص ـ : إنّي أُريد أنْ أسألك عن حديث، وأنا أهابك أنْ أسألك عنه! قال: لا تفعل يا ابن أخي، إذا علمت أنّ عندي علماً فاسألني عنه ولاتهبني، فقلت: قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لعلي حين خلّفه في المدينة في غزوة تبوك، فجعل سعد يحدّثه الحديث(10).
لماذا عندما يريدون أن يسألوا عن حديث يتعلّق بعلي وأهل البيت يهابون الصحابي أن يسألوه، أمّا إذا كان يتعلّق بغيرهم فيسألونه بكلّ انطلاق وبكلّ سهولة وبكلّ ارتياح؟
ويروي محمّد بن سعد في ]الطبقات[(11) بإسناده عن البراء بن عازب وعن زيد بن أرقم قالا:
لمّا كان عند غزوة جيش العسرة وهي تبوك، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لعلي بن أبي طالب: «إنّه لا بدّ أنْ أُقيم أو تقيم».
يظهر أنّ في المدينة في تلك الظروف حوادث، وهناك محاولات أو مؤامرات سنقرؤها في بعض الأحاديث الآتية، وكان لا بدّ أنْ يبقى في المدينة إمّا رسول اللّه نفسه وإمّا علي ولا ثالث، أحدهما لابدّ أنْ يبقى، وأمّا الغزوة أيضاً فلا بدّ وأنْ تتحقّق، فيقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لعلي: «إنّه لابدّ أنْ أُقيم أو تقيم»، فخلّفه.
فلمّا فَصَلَ رسول اللّه غازياً قال ناس ـ وفي بعض الألفاظ: قال ناس من قريش، وفي بعض الألفاظ: قال بعض المنافقين ـ ما خلّفه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم إلاّ لشيء كرهه منه، فبلغ ذلك عليّاً، فأتبع رسول اللّه حتّى انتهى إليه، فقال له: «ما جاء بك يا علي؟» قال: لا يا رسول اللّه، إلاّ أنّي سمعت ناساً يزعمون أنّك إنّما خلّفتني لشيء كرهته منّي، فتضاحك رسول اللّه وقال: «يا علي أما ترضى أن تكون منّي كهارون من موسى إلاّ أنّك لست بنبي؟» قال: بلى يا رسول اللّه، قال: «فإنّه كذلك».
وفي رواية ]سنن النسائي[(12) قال الناس: قالوا ملّه، أي ملّ رسول اللّه عليّاً وكره صحبته.
وفي رواية: قال علي لرسول اللّه: زعمت قريش أنّك إنّما خلّفتني أنّك استثقلتني وكرهت صحبتي، وبكى علي، فنادى رسول اللّه في الناس: «ما منكم أحد إلاّ وله خاصة، يابن أبي طالب، أما ترضى أنْ تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي؟» قال علي: رضيت عن اللّه عزّوجلّ وعن رسوله.
وإذا راجعتم ]سيرة ابن سيّد الناس[(13)، وكذا ]سيرة ابن قيّم الجوزية[(14)، و]سيرة ابن إسحاق[(15)، وأيضاً في بعض المصادر الأُخرى: إنّ الذين قالوا ذلك كانوا رجالاً من المنافقين، ففي بعض الألفاظ: الناس، وفي بعض الألفاظ: قريش، وفي بعض الألفاظ: المنافقون.
ومن هنا يظهر أنّ في قريش أيضاً منافقين، وهذا مطلب مهم.
وفي ]المعجم الأوسط[ للطبراني عن علي عليه السّلام: إنّ النبي قال له: «خلّفتك أنْ تكون خليفتي»، قلت: أتخلّف عنك يا رسول اللّه؟ قال: «ألا ترضى أنْ تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي»(16).
ففيه: «خلّفتك أنْ تكون خليفتي».
وروى السيوطي في ]جامعه الكبير[(17) عن كتب جمع، منهم: ابن النجار البغدادي، وأبو بكر الشيرازي في الألقاب، والحاكم النيسابوري في كتابه الكنى، والحسن بن بدر ـ الذي هو من كبار الحفّاظ ـ في كتابه ما رواه الخلفاء، هؤلاء يروون عن ابن عباس قال: قال عمر بن الخطّاب: كفّوا عن ذكر علي بن أبي طالب ]لماذا كانوا يذكرون عليّاً؟ وبم كانوا يذكرونه؟ حتّى نهاهم عمر عن ذكره؟ أكانوا يذكرونه بالخير وينهاهم؟ قائلاً: كفّوا عن ذكر علي بن أبي طالب[ فإنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يقول في علي ثلاث خصال لو كان لي واحدة منهنّ كان أحبّ إليّ ممّا طلعت عليه الشمس:
كنت أنا وأبو بكر وأبو عبيدة بن الجرّاح ]هؤلاء الثلاثة هم أصحاب السقيفة من المهاجرين[ ونفر من أصحاب النبي، وهو متّكىء ]أي النبي[ على علي بن أبي طالب، حتّى ضرب بيده على منكبيه ثمّ قال: «يا علي أنت أوّل المؤمنين إيماناً وأوّلهم إسلاماً، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى، وكذب من زعم أنّه يحبّني ويبغضك».
وفي ]تاريخ ابن كثير[(18): «أو ما ترضى أنْ تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ النبوّة».
وفرق بين عبارة «إلاّ النبوّة» وبين عبارة «إلاّ أنّك لست بنبي» و«إلاّ أنّه لا نبي بعدي» فرق كثير بين العبارتين، يقول ابن كثير: «إسناده صحيح ولم يخرجوه».
وفي ]تاريخ ابن كثير[ أيضاً(2) في حديث معاوية وسعد: إنّ معاوية وقع في علي فشتمه ]بنصّ العبارة[ فقال سعد: واللّه لأنْ تكون لي إحدى خلاله الثلاث أحبّ إليّ ممّا يكون لي ما طلعت عليه الشمس…، فيذكر منها حديث المنزلة.
إلاّ أن الزرندي الحافظ يذكر نفس الحديث يقول: عن سعد: إنّ بعض الأُمراء قال له: ما منعك أنْ تسبّ أبا تراب((19)).
فأراد أنْ لا يذكر اسم معاوية محاولةً لحفظ ماء وجهه وماء وجههم.
وفي ]تاريخ دمشق[ و]الصواعق المحرقة[ وغيرهما: إنّ رجلاً سأل معاوية عن مسألة فقال: سل عنها عليّاً فهو أعلم.
قال الرجل: جوابك فيها أحبّ إليّ من جواب علي.
قال معاوية: بئس ما قلت، لقد كرهت رجلاً كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يغرّه بالعلم غرّاً، ولقد قال له: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ لا نبي بعدي، وكان عمر إذا أشكل عليه شيء أخذ منه»(20).
وتلاحظون: أنّ في كلّ لفظ من هذه الألفاظ التي انتخبتها خصوصية، لابدّ من النظر إليها بعين الدقّة والإعتبار.
وانتهت الجهة الأُولى، أي جهة البحث عن السند والرواة.
(1) صحيح البخاري 5 / 24.
(2) المصدر 6 / 3.
(3) صحيح مسلم 4 / 1870 رقم 2404.
(4) المصدر 4 / 1871.
(5) حجة اللّه البالغة 1 / 134.
(6) منهاج السنّة 3 / 456.
(7) التحفة الاثنا عشرية: 278.
(8) إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري 6 / 363.
(9) الصواعق المحرقة: 90.
(10) طبقات ابن سعد 3 / 24.
(11) طبقات ابن سعد 3 / 24.
(12) السنن الكبرى: كتاب الخصائص، ذكر خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه 5 / 44 رقم 8138 و 120 رقم 8429، فضائل الصحابة: فضائل علي رضي اللّه عنه، 13.
(13) عيون الأثر في فنون المغازي والسير 2 / 294.
(14) زاد المعاد في هدى خير العباد 3 / 559 ـ 560.
(15) سيرة ابن هشام (السيرة النبويّة) 2 / 519 ـ 520.
(16) المعجم الأوسط 4 / 484 رقم 4248.
(17) الجامع الكبير 16 / 244 رقم 7818.
(18 ـ 2) البداية والنهاية، المجلد الرابع الجزء 7 / 340.
(19) نظم درر السمطين: 107.
(20) ترجمة الإمام علي عليه السّلام من تاريخ مدينة دمشق 1 / 396 رقم 410، الرياض النضرة في مناقب العشرة المبشّرة 3 / 162، مناقب الإمام علي بن أبي طالب عليه السّلام: 34 رقم 52.