بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين من الأولين والآخرين.
كلامنا في هذه الليلة حول حديث الغدير، هذا الحديث العظيم الذي اهتمّ به اللّه سبحانه وتعالى، واهتمّ به رسوله، والأئمّة الأطهار، كبار الصحابة، والعلماء عبر القرون.
قال اللّه تعالى (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)(1).
هذه الآية المباركة من الآيات المتعلقة بيوم الغدير، إلاّ أنّها وردت في القرآن الكريم في سياق آيات يخاطب بها اللّه سبحانه وتعالى أهل الكتاب:(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وََلأَدْخَلْناهُمْ جَنّاتِ النَّعيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَاْلإِنْجيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ َلأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ)(2) ثمّ بعد الآية أيضاً: (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْء حَتّى تُقيمُوا التَّوْراةَ وَاْلإِنْجيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزيدَنَّ كَثيرًا مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيانًا وَكُفْرًا فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرينَ)(3).
المخاطب في هذه الآيات وإنْ كان أهل الكتاب، لكنّ الآيات هذه منطبقة على أُمّة محمّد صلّى اللّه عليه وآله تمام الإنطباق، إذ يجوز أن يقال: ولو أنّ الأمّة الإسلاميّة آمنت، ولو أنّهم آمنوا واتّقوا، لكفّرنا عنهم سيّئاتهم ولأدخلناهم جنّات النعيم، ولو أنّهم أقاموا الكتاب والسنّة، وما أُنزل إليهم من ربّهم في أمير المؤمنين وأهل البيت الأطهار، لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، والأُمّة الإسلاميّة أيضاً منهم أُمّة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون.
مرّة أُخرى يعود ويقول:(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْء حَتّى تُقيمُوا التَّوْراةَ وَاْلإِنْجيلَ)، فقبل (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) كانت الآية (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَاْلإِنْجيلَ)، وبعدها أيضاً (لَسْتُمْ عَلى شَيْء حَتّى تُقيمُوا التَّوْراةَ وَاْلإِنْجيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) ومع ذلك (لَيَزيدَنَّ كَثيرًا مِنْهُمْ) من هذه الأُمة (ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيانًا وَكُفْرًا فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرينَ).
كما أنّ أهل الكتاب قد أُمروا بالعمل بكتبهم، أي اليهود مأمورون بالعمل بالتوراة، والنصارى مأمورون بالعمل بالإنجيل، فالمسلمون مأمورون بالعمل بالكتاب والسنّة، فإذا عملوا بالكتاب والسنّة وما أُنزل إليهم من ربّهم، لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولكنْ، ليزيدنّ كثيراً منهم ما أُنزل إليك من ربّك طغياناً وكفراً.
وحديث الغدير من أظهر مصاديق ما أُنزل إلى رسول اللّه، وأتمّ به اللّه سبحانه وتعالى الحجّة على الأُمّة، قال تعالى: (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ).
وقد قرأنا في حديث الدار في يوم الإنذار: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قال: «أمرني ربّي بأنْ أُبلّغ القوم ما أُمرت به، فضقت بذلك ذرعاً حتّى نزل جبرئيل وقال: إن لم تفعل لم تبلّغ ما أُرسلت به»(4).
فكانت الدعوة، وكان إبلاغ إمامة أمير المؤمنين، فخلافة إمامنا عليه السّلام من جملة ما أمر به رسول اللّه منذ بدء الدعوة، وإلى أواخر أيّام حياته الشريفة المباركة، لأنّ هذه الآية إنما نزلت في حجة الوداع، وهي في سورة المائدة، وسورة المائدة آخر ما نزل من القرآن بإجماع المسلمين.
أتذكّر في ]تفسير القرطبي[(5) يذكر الإجماع بصراحة على أنّ سورة المائدة آخر ما نزل من القرآن، كما أنّا في رواياتنا أيضاً يوجد عندنا نصّ على أنّ سورة المائدة آخر ما نزل من القرآن(6). فكان النبي مبلِّغاً خلافة علي من بعده وداعياً الناس إلى الإيمان بها، إلى جنب الإيمان باللّه والرسول… في جميع أدوار رسالته المباركة.
وحديث الغدير حديث عظيم جليل لجهات عديدة:
منها: تلك الظروف الخاصّة التي خطب فيها رسول اللّه هذه الخطبة.
ومنها: كون اللّفظ الوارد عن رسول اللّه في هذه الخطبة لفظاً لا مرية فيه ولا ارتياب في دلالته على إمامة أمير المؤمنين.
ومنها: نزول الآيات من القرآن الكريم.
ولقد بُذلت جهود كثيرة في حفظ هذا الحديث ونقله ونشره، كما بُذلت جهود في ردّه وكتمانه والتعتيم عليه.
نصّ حديث الغدير
وقبل الورود في البحث، لا بدّ من ذكر نصّ أو نصّين من روايات حديث الغدير عن بعض المصادر المعتبرة:
أخرج أحمد بن حنبل بسند صحيح عن زيد بن أرقم قال:
نزلنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بواد يقال له: وادي خم، فأمر بالصّلاة، فصلاّها بهجير، قال: فخطبنا، وظلّل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بثوب على شجرة سمرة من الشمس، فقال رسول اللّه: «ألستم تعلمون؟ ألستم تشهدون أنّي أولى بكلّ مؤمن من نفسه؟» قالوا: بلى، قال: «فمن كنت مولاه فإنّ عليّاً مولاه، اللهمّ عاد من عاداه ووال من والاه»(7).
وأخرج النسائي بسند صحيح عن أبي الطفيل عن زيد بن أرقم قال:
لمّا رجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله من حجة الوداع ونزل غدير خم، أمر بدوحات فقممن ـ أي فكنسن ـ ثمّ قال: «كأنّي قد دعيت فأجبت، وإنّي تارك فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر: كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عَلَيّ الحوض»، ثم قال: «إنّ اللّه مولاي وأنا وليّ كلّ مؤمن»، ثمّ إنّه أخذ بيد علي رضي اللّه عنه وقال: «من كنت وليّه فهذا وليّه، اللهمّ وال من والاه وعاد من عاداه».
يقول أبو الطفيل: فقلت لزيد: سمعته من رسول اللّه؟ فقال: إنّه ـ وفي بعض الألفاظ: واللّه، بدل إنّه ـ ما كان في الدوحات أحد إلاّ رآه بعينه وسمعه بأُذنيه(8).
فهذان لفظان بسندين معتبرين عن زيد بن أرقم.
(1) سورة المائدة (5): 67.
(2) سورة المائدة (5): 65 ـ 66.
(3) سورة المائدة (5): 68.
(4) معالم التنزيل 4 / 278 ـ 279، وراجع القسم الخاصّ بحديث الدار من هذا الكتاب.
(5) أنظر: تفسير القرطبي 6 / 288.
(6) تفسير العيّاشي 1 / 288.
(7) مسند أحمد 4 / 368 و372 ـ 373، 5 / 370.
(8) فضائل الصحابة / 15 رقم 45، خصائص أمير المؤمنين عليه السلام: 93.