بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين من الأولين والآخرين.
موضوع بحثنا «حديث الثقلين»، هذا الحديث الذي لو عمل به وطبّق لما وقع خلاف بين المسلمين.
إنّ الدعوة إلى الوحدة الإسلامية وإلى نبذ الخلافات بين الفرق، من جملة الأُمور التي يهتمّ بها المفكّرون المصلحون من المسلمين، وعندهم للوصول إلى هذا الهدف مشاريع واقتراحات ونظريات، ولكن حديث الثقلين خير جامع بين المسلمين، لأنّه حديث يتّفق عليه كلّ الأطراف، وهو حديث واضح في مدلوله وفي معناه.
ولنذكر قبل الورود بالبحث لفظاً أو لفظين من ألفاظ هذا الحديث الشريف:
في ]صحيح الترمذي[ بسنده عن جابر بن عبداللّه الأنصاري، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: «يا أيّها الناس إنّي تركت فيكم ما إنْ أخذتم به لن تضلّوا: كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي»(1).
وفي ]صحيح الترمذي[ أيضاً بإسناده عن زيد بن أرقم قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: «إنّي تارك فيكم ما إنْ تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرقا حتّى يردا عَلَيّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما»(2).
فهذان لفظان من ألفاظ الحديث، عن صحابيين من رواة هذا الحديث الشريف.
ويقع البحث في هذا الحديث من جهات:
الجهة الأُولى: في تحقيق ألفاظ هذا الحديث.
الجهة الثانية: في رواة هذا الحديث.
الجهة الثالثة: في دلالات هذا الحديث.
الجهة الرابعة: في المناقشات والمعارضات.
الجهة الأُولى
في تحقيق ألفاظ حديث الثقلين
هذا الحديث مشهور بحديث الثقلَين، والثَقَل: متاع المسافر كما في اللغة، فإنّي تارك فيكم الثَقَلين، الثقلين تثنية ثَقَل، وجماعة من المحدّثين واللغويين يقرأون الكلمة بالثِّقْلين: «إنّي تارك فيكم الثِّقْلين»، فيكون تثنية للثِقْل.
ولعلّ الأظهر كون الكلمة محرّكةً، أي «إنّي تارك فيكم الثَّقَلين» على أن تكون تثنية للثَقَل.
يقول صاحب ]القاموس[: «والثقل ـ محركة ـ متاع المسافر وحشمه وكلّ شيء نفيس مصون، ومنه الحديث: إنّي تارك فيكم الثَقَلين كتاب اللّه وعترتي»(3).
وإنّما أُرجّح الثَّقَلين على الثِّقْلين، لأنّه إذا كان الثَّقَل بمعنى متاع المسافر، فهذا أنسب بحال النبي صلّى اللّه عليه وآله، وبالظروف التي قال فيها هذا الكلام، لأنّ المسافر من بلد إلى بلد وخاصةً مع العزم على عدم العود إلى بلده السابق، يأخذ معه متاعه، ولمّا كانت المراكب في تلك العصور لا تتحمّل أخذ جميع وسائل الإنسان وأمتعته، فلا بدّ وأن يأخذ معه أنفس وأغلى الأشياء التي يمتلكها، أو تكون في حوزته.
ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يقول في حديث الثقلين: «إنّي قد دعيت فأجبت»، أو: «يوشك أنْ أُدعى فأُجيب»، هذه مقدمة حديث الثقلين، فيخبر رسول اللّه عن دنوّ أجله وقرب رحيله عن هذه الحياة، وحينئذ يقول: «وإنّي تارك»، ولا يخفى أنّ أغلى الأشياء عند النبي صلّى اللّه عليه وآله وأثمنها في حياته: القرآن والعترة، فكان ينبغي أنْ يأخذ القرآن والعترة معه، لكن مقتضى رأفته بهذه الأُمّة وحرصه على بقاء هذا الدين هو أن يبقي أغلى الأشياء عنده في هذا العالم، ويترك الثقلين الأمرين اللّذين كان مقتضى الحال أن يأخذهما معه، فيقول: «إنّي تارك فيكم الثَقَلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي»، ثمّ يوصيهم بقوله: «ما إنْ تمسّكتم بهما لن تضلّوا»، فالغرض من إبقاء هذين الأمرين بين الأُمة، والهدف من تركهما فيهم، هو أنْ لا يضلّوا من بعده.
فبهذه القرائن الموجودة في داخل الحديث، والظروف المحيطة بهذا الكلام، نرجّح أنْ تكون الكلمة الثقَلين لا الثقْلين.
وقد لاحظتم في اللفظين المذكورين أنّه في اللفظ الأوّل يقول: «ما إنْ أخذتم بهما لن تضلّوا»، وفي اللفظ الثاني يقول: «ما إنْ تمسّكتم بهما لن تضلّوا»، وهذان اللفظان موجودان عند غير الترمذي أيضاً.
فلفظة «ما إن أخذتم» أو لفظة «الأخذ» موجودة في ]مسند أحمد[(4)، وفي ]مسند ابن راهويه[(5)، وفي ]طبقات ابن سعد[(6)، وفي ]صحيح الترمذي[(7)، وفي ]مسند أبي يعلى[(8)، وفي ]المعجم الكبير[ للطبراني(9)، وفي ]مصابيح السنّة [للبغوي(10)، وفي ]جامع الأُصول[ لابن الأثير(11)، وفي غيرها من المصادر.
ولفظ «التمسك» تجدونه في ]مسند عبد بن حميد[(12)، وفي ]الدر المنثور[(13)، وغيرهما من المصادر(14).
وأنتم لو راجعتم اللغة، لوجدتم معنى «الأخذ» في مثل هذا المقام، وكذا معنى «التمسك» فيه «الإتّباع».
لكنّ كلمة «الإتّباع» أيضاً من ألفاظ حديث الثقلين، وهذا ما تجدونه في رواية ابن أبي شيبة(15).
وفي رواية الخطيب البغدادي(16) لفظ «الاعتصام» بدل لفظ «التمسك» و«الأخذ»، يقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: «إنّي تركت فيكم ما لن تضلّوا بعدي إنْ اعتصمتم به: كتاب اللّه وعترتي»، و«الإعتصام» في اللغة العربية، في الكتاب والسّنة وفي الإستعمالات الفصيحة هو «التمسك»(17).
ولذا نرى في الحديث المتفق عليه ـ أي الموجود في كتب أصحابنا وفي كتب القوم ـ عن الإمام الصادق عليه السّلام بتفسير قوله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَميعًا وَلا تَفَرَّقُوا)(18) يقول الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السّلام: «نحن حبل اللّه». وحديث الصادق عليه السّلام هذا بتفسير الآية المباركة موجود في ]تفسير الثعلبي[، وفي ]الصواعق المحرقة[(19)، وبعض المصادر الأُخرى(20).
وإذا راجعتم تفسير الفخر الرازي(21) في تفسير هذه الآية المباركة، وأيضاً تفسيرالخازن(22) وبعض التفاسير الأُخرى، لرأيتم أنّهم يذكرون حديث الثقلين في تفسير الآية المباركة، وقد عرفنا أنّ الإعتصام هو «التمسك»، و«التمسك» يرجع إلى «الإتّباع» أيضاً، وذلك موجود أيضاً بسند صحيح في ]مستدرك[ الحاكم(23).
وإذا وجب «الإتّباع» ثبتت الإمامة بلا نزاع، فيكون علي وأهل البيت عليهم السّلام خلفاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله من بعده.
لكن حديث الثقلين ورد بلفظ «الخليفتين» أيضاً، كما تجدونه عند أحمد في ]المسند[(24)، وابن أبي عاصم في ]كتاب السنّة[(25)، وفي ]المعجم الكبير[ للطبراني، يقول الحافظ الهيثمي بعد أن يرويه عن المعجم الكبير للطبراني(26): «ورجاله ثقات»(27)، وكذا صحّح الحديث جلال الدين السيوطي(28).
والألطف من هذا، عندما نراجع ]فيض القدير في شرح الجامع الصغير[(29)يقول المنّاوي بشرح كلمة «عترتي» يقول: «وهم أصحاب الكساء الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً».
فلاحظوا، ألفاظ هذا الحديث كيف تنتهي إلى الإمامة والخلافة، وإلى تعيين الإمام والخليفة بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله.
فظهر: أنّ هذا الحديث بجميع ألفاظه يؤدّي معنىً واحداً، وهو معنى الإمامة، أمّا بلفظ «الخليفتين» فهو نص، ولا خلاف في هذا، وأيّ لفظ يكون أصرح في الدلالة على الإمامة والخلافة من هذا اللفظ؟! «إنّي تارك فيكم خليفتين ـ أو الخليفيتين ـ : كتاب اللّه وعترتي، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي».
إذن، رأينا كيف يصدّق الحديث القرآن الكريم، وكيف يصدّق القرآن الكريم الحديث النبوي الشريف.
(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَميعًا وَلا تَفَرَّقُوا).
فهذه هي الجهة الأُولى فيما يرتبط بألفاظ حديث الثقلين، وأنّه كيف نستكشف الإمامة والخلافة من نفس الألفاظ، بغضّ النظر عن ذلك اللفظ الذي هو نصّ صريح بالخلافة بعد رسول اللّه.
(1) صحيح الترمذي 6 / 124 رقم 3786.
(2) صحيح الترمذي 6 / 125 الرقم 3788.
(3) القاموس المحيط 3 / 468، مادة «ثقل».
(4) مسند أحمد 3 / 59.
(5) أنظر: المطالب العالية لابن حجر العسقلاني، رقم 1873.
(6) طبقات ابن سعد 2 / 194.
(7) صحيح الترمذي 6 / 124 رقم 3786.
(8) مسند أبي يعلى 2 / 376 رقم 1140.
(9) المعجم الكبير 3 / 62 ـ 63 رقم 2678 ورقم 2680.
(10) مصابيح السنّة 4 / 189 رقم 481.
(11) جامع الأصول 1 / 277 رقم 65.
(12) المنتخب من مسند عبد بن حميد: 114 رقم 265.
(13) الدرّ المنثور 2 / 285.
(14) احياء الميت بفضائل أهل البيت للسيوطي: 36 رقم 7.
(15) مصنف ابن أبي شيبة 10 / 505 رقم 10127.
(16) أنظر: كنز العمّال 1 / 187 رقم 951.
(17) الصحاح 4 / 1608، لسان العرب 10 / 488، مادة «مسك».
(18) سورة آل عمران (3): 103.
(19) الصواعق المحرقة: 233.
(20) شواهد التنزيل 1 / 169 و 170.
(21) تفسير الرازي 8 / 173.
(22) تفسير الخازن 1 / 277.
(23) المستدرك على الصحيحين 3 / 110.
(24) مسند أحمد 5 / 181 رقم 21068 و189 رقم 21145.
(25) كتاب السنّة: 336 رقم 754.
(26) المعجم الكبير 5 / 52.
(27) مجمع الزوائد 9 / 165.
(28) الجامع الصغير 1 / 402 رقم 263.
(29) فيض القدير في شرح الجامع الصغير 3 / 14 شرح حديث 2631.