المنزلة الرابعة: القرابة القريبة
والمنزلة الخامسة: الشركة في الأمر
قال تعالى عن لسان موسى: (وَاجْعَلْ لي وَزيرًا مِنْ أَهْلي * هارُونَ أَخي * اشْدُدْ بِهِ أَزْري * وَأَشْرِكْهُ في أَمْري)(1).
ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يخبر في حديث المنزلة عن ثبوت جميع هذه المنازل القرآنية لهارون وغيرها كما سنقرأ، عن ثبوتها جميعاً لعلي ما عدا النبوة، حيث أخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم النبوة بعد شمول تلك الكلمة التي أطلقها، فهي تشمل النبوة إلاّ أنّه أخرجها واستثناها استثناءً، لقيام الضرورة الدينيّة على أنْ لا نبي بعده صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، ويبقى غير هذه المنزلة باقياً وثابتاً لعلي عليه السّلام، وبيان ذلك:
إنّ عليّاً عليه السّلام وإنْ لم يكن بنبي ـ وهذا هو الفارق الوحيد بينه وبين هارون في المراتب والمقامات والمنازل المعنوية الثابتة لهارون ـ إلاّ أنّه عليه السّلام يعرّف نفسه ويذكر بعض خصائصه وأوصافه في الخطبة القاصعة، نقرأ في ]نهج البلاغة[ يقول عليه السّلام:
«ولقد علمتم موضعي من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بالقرابة القربية والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا ولد، يَضمّني إلى صدره ويكنفني في فراشه، ويمسّني جسده، ويشمّني عرفه، وكان يمضغ الشيء ثمّ يلقمنيه، وما وجد لي كذبة بقول ولا خطلة في فعل، ولقد قرن اللّه به صلّى اللّه عليه وآله وسلّم من لدن أنْ كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالَم، ليله ونهاره، ولقد كنت أتّبعه اتّباع الفصيل أثر أُمّه، يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه عَلَما، ويأمرني بالإقتداء به، ولقد كان يجاور في كلّ سنة بحراء، فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول اللّه وخديجة وأنا ثالثهما».
لاحظوا هذه الكلمة: «أرى نور الوحي والرسالة، وأشمّ ريح النبوّة، ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه، فقلت: يا رسول اللّه ما هذه الرنّة؟ فقال: هذا الشيطان قد أيس من عبادته».
ثمّ لاحظوا ماذا يقول الرسول لعلي: «إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى، إلاّ أنّك لست بنبي ولكنّك وزير، وإنّك لعلى خير»(2).
أرجوا الإنتباه إلى ما أقول، لتروا كيف تتطابق الآيات القرآنيّة والأحاديث النبويّة وكلام علي في الخطبة القاصعة، إنّ عليّاً وإنْ لم يكن بنبي لكنّه رأى نور الوحي والرسالة وشمّ ريح النبوّة.
أترون أنّ هذا المقام وهذه المنزلة تعادلها منازل جميع الصحابة من أوّلهم إلى آخرهم في المنازل الثابتة لهم؟ تلك المنازل لو وضعت في كفّة ميزان، ووضعت هذه المنزلة في كفّة، أترون أنّ تلك المنازل كلّها وتلك المناقب، تعادل هذه المنقبة الواحدة؟ فكيف وأنْ يُدّعى أنَّ شيئاً من تلك المناقب المزعومة يترجّح على هذه المنقبة؟
علي لم يكن بنبي، لكنّه شمّ ريح النبوّة. لكنْ ما معنى هذه الكلمة بالدقّة؟ لا نتوصّل إلى معناها، وعقولنا قاصرة عن درك هذه الحقيقة، وأيضاً: لم يكن علي نبيّاً إلاّ أنّه كان وزيراً لرسول اللّه الذي هو أشرف الأنبياء وخير المرسلين وأكرمهم وأعظمهم وأقربهم إلى اللّه سبحانه وتعالى، وأين هذه المرتبة من مرتبة هارون بالنسبة إلى موسى الذي طلب أن يكون هارون وزيراً له، إلاّ أنّ كلامنا الآن في دوران الأمر بين علي وأبي بكر.
ومن الأحاديث الشاهدة بوزارة علي عليه السّلام لرسول اللّه، الحديث الذي ذكرناه في يوم الدار، يوم الإنذار، حيث قال: «فأيّكم يوآزرني على أمري هذا؟» قال علي: أنا يا نبي اللّه أكون وزيرك عليه، فقال: «أنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا»(3).
وفي رواية الحلبي في ]سيرته[: «إجلس، فأنت أخي ووزيري ووصيّي ووارثي وخليفتي من بعدي»(4).
وفي ]تاريخ دمشق[، و]المرقاة[، و]الدر المنثور[، و]الرياض النضرة[، يروون عن ابن مردويه وعن ابن عساكر وعن الخطيب البغدادي وغيرهم، عن أسماء بنت عميس قالت:
سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يقول: «اللهمّ إنّي أقول كما قال أخي موسى: اللهمّ اجعل لي وزيراً من أهلي أخي عليّاً، اشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبّحك كثيراً ونذكرك كثيراً، إنّك كنت بنا بصيراً»(5).
هذه دلالات حديث المنزلة، لاحظوا كيف تتطابق الآيات والروايات وكلام علي بالذات؟
إنّ لعلي عليه السّلام موضعاً من رسول اللّه يقول: «قد علمتم موضعي من رسول اللّه بالقرابة القريبة»، هذه القرابة القريبة في قصّة موسى وهارون قول موسى: (وَاجْعَلْ لي وَزيرًا مِنْ أَهْلي * هارُونَ أَخي)، ومن هنا نرى ـ كما سيأتي ـ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قد ذكر حديث المنزلة في قصة المؤاخاة بينه وبين علي عليهما الصلاة والسلام.
مضافاً إلى قوله تعالى: (وَأُولُوا اْلأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْض في كِتابِ اللّهِ مِنَ الْمُؤْمِنينَ وَالْمُهاجِرينَ)(6). فإنّ الأوصاف الثلاثة هذه ـ أي الإيمان والهجرة وكونه ذا رحم ـ لا تنطبق إلاّ على علي.
فيظهر أنّ القرابة القريبة هي جزء من مقوّمات الخلافة والولاية بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم.
وقد ذكر الفخر الرازي بتفسير الآية المذكورة(7) استدلال محمّد بن عبداللّه بن الحسن بن الحسن المجتبى عليه السّلام بالآية المباركة هذه، في كتاب له إلى المنصور العباسي، استدلّ بهذه الآية على ثبوت الأولوية لعلي، وأجابه المنصور بأنّ العباس أولى بالنبي من علي، لأنّه عمّه وعلي ابن عمّه، ووافق الفخر الرازي ـ الذي ليس من العباسيين ـ في دعواهم هذه، لا حبّاً للعباسيين، وإنّما… .
والفخر الرازي نفسه يعلم بأنّ العباس عمّ النبي ليس من المهاجرين، إذ لا هجرة بعد الفتح، فكان علي هو المؤمن المهاجر ذا الرحم، ولو فرضنا أنّ في الصحابة غير علي من هو مؤمن ومهاجر، والإنصاف وجود كثيرين منهم كذلك، إلاّ أنّهم لم يكونوا بذي رحم، ويبقي العباس وقد عرفتم أنّه ليس من المهاجرين، فلا تنطبق الآية إلاّ على علي.
وهذا وجه استدلال محمّد بن عبداللّه بن الحسن في كتابه إلى المنصور، وقد كان الرجل عالماً فاضلاً عارفاً بالقرآن الكريم، والفخر الرازي في هذا الموضع يوافق العباسيين والمنصور العباسي، ويخالف الهاشميين والعلويين حتّى لا يمكن ـ بزعمه ـ الاستدلال بالآية على إمامة علي أمير المؤمنين.
فقوله تعالى: (وَأُولُوا اْلأَرْحامِ) دليل أخر على إمامة علي، ومن هنا يظهر: أنّ استدلال علي عليه السّلام وذكره القرابة القريبة كانت إشارة ما في هذه الناحية من الدخل في مسألة الإمامة والولاية.
مضافاً إلى أنّ العباس قد بايع عليّاً عليه السّلام في الغدير وبقي على بيعته تلك، ولم يبايع غير أمير المؤمنين، بل في قضايا السقيفة جاء إلى علي، وطلب منه تجديد البيعة، فيسقط العباس عن الإستحقاق للإمامة والخلافة بعد رسول اللّه، ولو تتذكرون، ذكرت لكم في الليلة الأُولى أنه كان هناك قول بإمامة العباس، لكنّه قول لا يستحق الذكر، والبحث عنه عديم الجدوى.
(1) سورة طه (20): 31.
(2) نهج البلاغه 2 / 182 بشرح محمّد عبده.
(3) تفسير البغوي 4 / 278، ومصادر أُخرى.
(4) السيرة الحلبيّة 1 / 461.
(5) السيرة الحلبيّة 1 / 461.
(6) سورة الأحزاب (33): 6.
(7) تفسير الرازي 15 / 213 ـ 214.