المراد من الاثني عشر عند أهل السنة
فإذا كان المراد بنظر أصحابنا من هذا الحديث أئمّتنا الأطهار الإثنا عشر، فلنرجع إلى أئمّة أهل السنّة ومحدّثيهم الحفّاظ الكبار، لنلاحظ ماذا يقولون في معنى هذا الحديث، ومَن المراد من هؤلاء الأئمّة في هذا الحديث الثابت؟ فهنا أُمور:
الأمر الأوّل: هذا الحديث لا يمكنهم ردّه، لصحّته ووجوده في الصحيحين وغيرهما من الكتب.
الأمر الثاني: إنّهم لا يريدون أن يعترفوا بما تقوله الشيعة الإمامية.
الأمر الثالث: إنّ الذين تولّوا الأمر بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عددهم أكثر من هذا العدد بكثير.
ومع الإلتفات إلى هذه الأُمور الثلاثة، لاحظوا ما يقولون في شرح هذا، وانظروا كيف يضطربون وتتضارب أفكارهم وآراؤهم وأقوالهم في شرحه وبيان معناه، ولو أردتُ أنْ أذكر لكم كلّ ما حصلت عليه من كلماتهم لطال بنا المجلس، وعندنا بحوث لاحقة أيضاً فلا يبقى لها مجال.
أقول: لقد اضطربوا في معنى هذا الحديث اضطراباً كبيراً، فابن حجر العسقلاني في ]فتح الباري[ يذكر آراء ابن الجوزي والقاضي عياض، ويباحثهم فيما قالا، وابن كثير الدمشقي يذكر في كتابه ]البداية والنهاية[ ـ حيث يعنون هذا الحديث ـ آراء البيهقي وغيره ويناقشهم، ولا بأس أنْ أقرأ لكم رأي ابن كثير فقط، وبه أكتفي لئلاّ يطول بنا البحث.
يقول ابن كثير بعد أنْ يذكر رأي البيهقي وغيره: وفيه نظر، وبيان ذلك إنّ الخلفاء إلى زمن الوليد بن يزيد أكثر من اثني عشر على كلّ تقدير، وبرهانه إنّ الخلفاء الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، خلافتهم محققة بنص حديث سفينة: «الخلافة بعدي ثلاثون سنة»، ثمّ بعدهم الحسن بن علي كما وقع ـ لأنّ عليّاً أوصى إليه، وبايعه أهل العراق وركب وركبوا معه لقتال أهل الشام ـ ثمّ معاوية، ثمّ ابنه يزيد بن معاوية، ثمّ ابنه معاوية بن يزيد، ثمّ مروان بن الحكم، ثمّ عبدالملك بن مروان، ثمّ ابنه الوليد بن عبدالملك، ثمّ سليمان بن عبدالملك، فهؤلاء خمسة عشر، فزادوا ثلاثة، وعلى كلّ تقدير فهم اثنا عشر قبل عمر بن عبدالعزيز، فهذا الذي سلكه أي البيهقي على هذا التقدير يدخل في الإثني عشر يزيد بن معاوية، ويخرج منهم عمر بن عبدالعزيز، الذي أطبق الأئمّة على شكره وعلى مدحه، وعدّوه من الخلفاء الراشدين، وأجمع الناس قاطبة على عدله، وأنّ أيّامه كانت من أعدل الأيّام، حتّى الرافضة يعترفون بذلك(1).
فإن قال: ـ يعني البيهقي ـ أنا لا أعتبر إلاّ من اجتمعت الأُمّة عليه، لزمه على هذا القول أنْ لا يعدّ علي بن أبي طالب ولا ابنه، لأنّ الناس لم يجتمعوا عليهما، وذلك لأنّ أهل الشام بكاملهم لم يبايعوهما، وعدّ حينئذ معاوية وابنه يزيد و ابن ابنه معاوية بن يزيد، ولم يعتد بأيّام مروان ولا ابن الزبير، لأنّ الأُمّة لم تجتمع على واحد منهما، ولكن هذا لا يمكن أن يسلك، لأنّه يلزم منه إخراج علي وابنه الحسن من هؤلاء الإثني عشر، وهو خلاف ما نصّ عليه أئمّة السنّة بل الشيعة(2).
فهذا قول من أقوالهم، وهو من البيهقي، ثمّ هذا قول ابن كثير باعتراضه على البيهقي حيث يقول بأنّ لازم كلامكم إخراج علي والحسن من الاثني عشر.
ولو أردتم التفصيل، فراجعوا: ]شرح النووي[ على صحيح مسلم، وراجعوا ]فتح الباري في شرح صحيح البخاري[، وراجعوا تفصيل كلام ابن كثير في ]تاريخه[، فقد ذكروا في هذه الكتب أن بعضهم أخرج الإمام عليّاً عليه السّلام والحسن من الأئمّة الاثني عشر، وأدخلوا في مقابلهما ومكانهما معاوية ويزيد بن معاوية وأمثالهما(3).
لكن ممّا يهوّن الخطب، أنّهم بعد أنْ شرّقوا وغرّبوا، اضطرّوا إلى الإعتراف بعدم فهمهم للحديث، وكما ذكرنا في الأُمور الثلاثة، فإنّ الحقيقة هي أنّهم يريدون أن يعترفوا بما تقوله الشيعة، ورغم جميع محاولاتهم، وعلى مختلف آرائهم، فإنّ الحديث لا ينطبق على شيء منها.
يقول الحافظ ابن العربي المالكي كما في ]شرح الترمذي[(4): لم أعلم للحديث معنى.
وفي ]فتح الباري[ عن ابن البطال إنّه حكي عن المهلب قوله ـ وهي عبارة مهمة ـ : لم ألق أحداً في هذا الحديث بشيء معيّن(5).
وعن ابن الجوزي: قد أطلت البحث عن معنى هذا الحديث وتطلّبت مظانّه وسألت عنه، فلم أقع على المقصود(6).
أقول: إنّ المقصود معلوم والنبيّ صلّى اللّه عليه وآله ما أبهم الكلام، لكنّ المقصود يقع عليه من كان عنده إنصاف ولم يكن عنده تعصّب.
والملاحظ أنّهم يحاولون قدر الإمكان تطبيق الحديث على زمن حكومة بني أُميّة، مع أنّهم يروون عن النبي أن الخلافة بعده ثلاثون سنة، ثم يكون الملك، وقلّ ما رأيت منهم من يشارك حكّام بني العباس في معنى هذا الحديث، نعم، وجدته في كلام الفضل ابن روزبهان، فلاحظوا من يرى ابن روزبهان أنّهم الأئمّة الإثنا عشر، يقول: إنّ عدد صلحاء الخلفاء من قريش اثنا عشر ]و كأنّ الرسول صلّى اللّه عليه وآله قيّد هذا الحديث بالصلحاء، والحال أنّه لا يوجد في لفظ الحديث كلمة: الصلحاء، أو ما يؤدّي معنى كلمة الصلحاء[ وهم: الخلفاء الراشدون، وهم خمسة ـ يعني منهم الحسن عليه السّلام ـ ثمّ عبداللّه بن الزبير وعمر بن عبدالعزيز، فهؤلاء سبعة، وخمسة من بني العباس(7).
أمّا مَن هؤلاء الخمسة من بني العباس؟ لا يذكرهم، فمن يصلح لأنْ يذكر؟ يذكر هارون؟ يذكر المتوكل؟ يذكر المنصور الدوانيقي؟ أيّهم يستحقّ أن يطلق عليه اسم خليفة رسول اللّه والإمام من بعده؟ فهو لا يذكر أحداً، وإنّما يقول خمسة، وكأن تقسيم هذا الأمر قد فُوّض إلى الفضل ابن روزبهان، فجعل من هؤلاء سبعة ومن هؤلاء خمسة.
وعلى كلّ حال، ليس لهم رأي يستقرّون عليه، ثمّ يعترفون بعدم فهمهم للحديث، وفي الحقيقة ليس بعدم فهم، وإنّما عدم اعتراف بالواقع والحقيقة.
(1) إذن، يظهر: إنّ الملاك في الأئمّة أن يكونوا عدولاً، حتّى يُعَدوا في الإثني عشر الذين أرادهم رسول اللّه، فيعترض على القوم لماذا أدخلتم يزيد بن معاوية وأخرجتم عمر بن عبدالعزيز والحال أنّ عمر بن عبدالعزيز معروف بالعدل؟
(2) البداية والنهاية 6 / 249 ـ 250.
(3) لنا بحث طويلٌ حول هذا الحديث، يقع في جهتين:
الأولى: في تحقيق الوجوه التي ذكرها القوم في معناه، ونقدها واحداً واحداً.
والثانية: في بيان معناه على ضوء الأدلّة المتقنة من الكتاب والسنّة، لا سيّما سائر الأحاديث الصحيحة الواردة في الموضوع، لأنّ الحديث يفسّر بعضه بعضاً.
وبعبارة أُخرى: يتكوّن البحث في معنى هذا الحديث من فصلين:
أحدهما: في الموانع عن انطباق الحديث على الأشخاص الذين ذكرهم القوم.
والثاني: في مصاديقه الذين قصدهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم.
وكلّ ذلك بالنظر إلى الأحاديث الصحيحة وأخبار أولئك الأشخاص المدوّنة في كتب السير والتواريخ.
هذا، وقد توافق القوم على ذكر جملة من ملوك بني أُميّة في عداد الخلفاء الإثني عشر، وذلك باطلٌ بالنظر إلى أن الحديث في «الخلفاء» لا «الملوك» وبالنظر إلى ما ورد في كتب الفريقين في ذمّ بني أُميّة، لا سيّما الحديث المعتبر بتفسير قوله تعالى: (… وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ)] سورة الاسراء (17): 60 [من أنّ المراد بنو أُميّة.
(4) عارضة الأحوذي في شرح الترمذي 9 / 69.
(5) فتح الباري 13 / 180.
(6) المصدر 13 / 181.
(7) أنظر: شرح احقاق الحق 7 / 478.