آية المباهلة
قوله تعالى: (فَمَنْ حَاجَّكَ فيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَى الْكاذِبينَ)(1).
هذه الآية تسمّى بـ«آية المباهلة».
المباهلة في اللغة:
والمباهلة: من البهل، والبهل في اللغه بمعنى تخلية الشيء وتركه غير مراعى، هذه عبارة الراغب في كتاب ]المفردات[(2).
وعندما تراجعون ]القاموس[(3)و]تاج العروس[(4) وغيرهما من الكتب اللغوية(5) ترونهم يقولون في معنى البهل أنّه اللعن.
لكنّي رأيت عبارة الراغب أدق، فالبهل: هو ترك الشيء غير مراعى، كأنْ تترك الحيوان مثلاً من غير أن تربطه بمكان، فتتركه غير مراعى، وتخلّيه وحاله وطبعه.
وهذا المعنى موجود في رواياتنا بعبارة: «وكله اللّه إلى نفسه»، فمن فعل كذا أوكله اللّه إلى نفسه.
وهذا المعنى دقيق جدّاً.
تتذكّرون في أدعيتكم تقولون: «ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً»(6) وأنّه لمعنى جليل وعميق جدّاً; لو أنّ الإنسان تُرِك من قبل اللّه سبحانه وتعالى لحظة، وانقطع ارتباطه باللّه سبحانه وتعالى، وانقطع فيض الباري بالنسبة إليه آناً من الآنات، لانعدم هذا الإنسان وهلك.
ولو أردنا تشبيه هذا المعنى بأمر مادّي خارجي، نذكر الضياءالمنبعث من المصباح المتّصل بالمركز المولّد، فلو انقطع الاتصال آناً مّا لم تجد هناك ضياءً ولا نوراً من هذا المصباح.
هذا معنى إيكال الإنسان إلى نفسه، لذلك نقول: «لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً».
هناك كلمة لأمير المؤمنين عليه السّلام في ]نهج البلاغة[ يقول فيها:
«إنّ أبغض الخلائق إلى اللّه رجلان، رجل وكله اللّه إلى نفسه فهو جائر عن قصد السبيل، مشغوف بكلام بدعة ودعاء ضلالة، فهو فتنة لمن افتتن به، ضالُّ عن هدي من كان قبله، مضلُّ لمن اقتدى به في حياته وبعد وفاته، حمّالٌ لخطايا غيره، رهنٌ بخطيئته»(7).
فالمباهلة: أن يدعو الإنسان ويطلب من اللّه سبحانه وتعالى أن يترك شخصاً بحاله، وأنْ يوكله إلى نفسه، وعلى ضوء كلام أمير المؤمنين أن يطلب من اللّه سبحانه وتعالى أن يكون هذا الشخص أبغض الخلائق إليه، وأيّ لعن فوق هذا؟ وأيّ دعاء على أحد أكثر من هذا؟
لذا عندما نرجع إلى معنى كلمة اللعن في اللغة نراها بمعنى الطرد، الطرد بسخط، والحرمان من الرحمة، فعندما تلعن شخصاً ـ أي تطلب من اللّه سبحانه وتعالى أن لا يرحمه ـ تطلب من اللّه أن يكون أبغض الخلائق إليه، فالمعنى في ]القاموس[ وشرحه أيضاً صحيح، إلاّ أنّ ما جاء في ]مفردات[ الراغب أدق، فهذا معنى المباهلة.
إذن، عرفنا لماذا أُمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بالمباهلة، ثمّ عرفنا في هذا المقدار من الكلام أنّه لماذا عَدَل القوم عن المباهلة، لماذا تراجعوا، مع أنّهم قرّروا ووافقوا عليها وحضروا من أجلها، إلاّ أنّهم لمّا رأوا رسول اللّه ورأوا أهل بيته خارجين معه، قال أُسقفهم: «إنّي لأرى وجوهاً لو طلبوا من اللّه سبحانه وتعالى أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله»(8).
فلماذا جاء رسول اللّه بمن جاء؟ لانريد الآن أن نعيّن من جاء مع رسول اللّه لكن يبقى هذا السؤال: لماذا جاء رسول اللّه بمن جاء دون غيرهم؟
(1) سورة آل عمران (3): 61.
(2) مفردات ألفاظ القرآن: 149 «بهل».
(3) القاموس المحيط 3 / 339 «بهل».
(4) تاج العروس 7 / 238 «بهل».
(5) الصحاح 4 / 1642 «بهل»، لسان العرب 11 / 72 «بهل».
(6) مصباح المتهجّد: 60 و 65 و 210 وغيرها.
(7) نهج البلاغة: 59، الخطبة رقم 17.
(8) تفسير البغوي (معالم التنزيل في التفسير والتأويل) 1 / 481، الكشّاف في تفسير القرآن 1 / 434، تفسير الخازن 1 / 254.