الدليل السادس:
وأمّا صلاة أبي بكر، وهي مسألة مهمة جدّاً لسببين:
السبب الأوّل: إنّ خبر صلاة أبي بكر وارد في الصحيحين، لا بسند بل أكثر، ووارد في المسانيد والسنن، وفي أكثر كتبهم المعتبرة المشهورة(1).
وثانيا: الصّلاة أفضل العبادات، وإذا كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قد أرسل أبا بكر ليصلّي في مكانه في حال مرضه ودنوّ أجله، فإنّه سيكون دليلاً على أنّه يريد أنْ يرشّحه للخلافة من بعده، فيكون حديث صلاة أبي بكر في مكان رسول اللّه، من أحسن الأدلّة على إمامة أبي بكر.
ولو راجعتم الكتب، لرأيتم اهتمامهم بهذا الحديث، واستدلالهم به وجعله على رأس جميع الأدلّه، وفي أوّل ما يحتجّون به لإمامة أبي بكر.
رووا هذا الحديث عن عدّة من الصحابة، يروون هذا الخبر مرسلاً، أو يسمعون الخبر من عائشة وتكون هي الواسطة في نقله، وحينئذ تنتهي جميع أسانيد هذا الخبر إلى عائشة، وعائشة متّهمة في نقل مثل هذه القضايا لسببين:
الأوّل: مخالفتها لعلي.
الثاني: كونهابنت أبي بكر.
ولكنْ بغضّ النظر عن هذه الناحية، لو نظرنا إلى ملابسات هذه القضية والقرائن الداخلية في ألفاظ الخبر، وكذلك القرائن الخارجية التي لها علاقة لهذا الموضوع، لرأيتم أن إرسال أبي بكر إلى الصلاة كان بإيعاز من عائشة نفسها، ولم يكن من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم.
فمن جملة القرائن المهمة التي لها الأثر البالغ في فهم هذه القضية: قضيّة أمر رسول اللّه بخروج القوم مع أُسامة، قضية بعث أُسامة، وتأكيده صلّى اللّه عليه وآله وسلّم على هذا البعث إلى آخر لحظة من حياته المباركة.
أمّا أنّ النبي كان يؤكّد على بعث أُسامة، وإلى آخر لحظة من حياته، فلم يخالف فيه أحد، ولا خلاف فيه أبداً، وهو مذكور في كتبنا وفي كتبهم.
وأمّا أنّ كبار الصّحابة وعلى رأسهم أبو بكر وعمر كانا في هذا البعث، فهذا أيضاً ثابت بالكتب المعتبرة التي نقلت هذا الخبر، فكيف يأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بخروج أبي بكر في بعث أُسامة، ويؤكّد على خروجه إلى أخر لحظة من حياته، ومع ذلك يأمر أبا بكر أنْ يصلّي في مكانه؟
وهنا يضطرّ مثل ابن تيميّة لأن ينكر وجود أبي بكر في بعث أُسامة، ويقول: هذا كذب(2)، لأنّه يعلم بأنّ وجود أبي بكر في بعث أُسامة، يعني كذب خبر إرسال أبي بكر إلى الصلاة، ولكنّ مسألة الصلاة من أهمّ أدلّتهم على إمامة أبي بكر، إذن، لابدّ من الإنكار، والحال أنّ وجود أبي بكر بعث أُسامة لا يقبل الإنكار أبداً.
أنقل لكم عبارة واحدة فقط، يقول الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتاب ]فتح الباري بشرح البخاري[:
قد روى ذلك ـ أي كون أبي بكر في بعث أُسامة ـ الواقدي وابن سعد، وابن إسحاق، وابن الجوزي، وابن عساكر، وغيرهم(3). أي: وغيرهم من علماء المغازي والحديث.
ولذا لمّا توفّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم كان أُسامة بجيشه في خارج المدينة، ولمّا ولّي أبو بكر اعترض أُسامة ولم يبايع أبا بكر، قال: أنا أمير على أبي بكر وكيف أُبايعه؟ ولذا لمّا سيّر أبو بكر أُسامة بما أمره رسول اللّه به، استأذن منه إبقاء عمر في المدينة المنورة، ليكون معه في تطبيق الخطط المدبرة.
إنّ القرائن الداخلية والخارجية تقتضي كذب هذا الخبر، أي خبر: أنّ النبي أرسل أبا بكر إلى الصّلاة.
ولكن لا نكتفي بهذا القدر، ونضيف أنّ عليّاً عليه السّلام كان يعتقد، وكذا أهل البيت كانوا يعتقدون، بأنّ خروج أبي بكر إلى الصلاة كان بأمر من عائشة لا من رسول اللّه.
قال ابن أبي الحديد: سألت الشيخ ـ أي شيخه وأُستاذه في كلام له في هذه القضية ـ أفتقول أنت أنّ عائشة عيّنت أباها للصلاة ورسول اللّه لم يعيّنه؟ فقال: أمّا أنا فلا أقول ذلك، لكن عليّاً كان يقوله، وتكليفي غير تكليفه، كان حاضراً ولم أكن حاضراً(4).
ولا نكتفي بهذا القدر، فنقول:
سلّمنا بأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم هو الذي أمر أبا بكر بهذه الصلاة، فكم من صحابي أمره رسول اللّه بأن يصلّي في مكانه في مسجده وفي محرابه، ولم يدّع أحد ثبوت الإمامة بتلك الصلاة لذلك الصحابي.
لكنْ لكم أن تقولوا: بأنّ الصلاة في أُخريات حياته تختلف عن الصلاة في الأوقات السابقة، هذه الصلاة بهذه الخصوصية حيث كانت في أواخر حياته فيها إشعار بالنصب، بنصب أبي بكر للإمامة من بعده.
فاسمع لواقع القضية، واستمع لما يأتي:
إنّه لو كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم هو الآمر، فقد ذكرت تلك الأخبار أنّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم خرج بنفسه الشريفة ـ معتمداً على رجلين ورجلاه تخطّان على الأرض ـ ونحّى أبا بكر عن المحراب، وصلّى تلك الصلاة بنفسه.
لكنّهم يعودون فيقولون: بأنّ صلاة أبي بكر كانت أيّاماً عديدة، وهذا الذي وقع من رسول اللّه وقع مرّة واحدةً فقط.
قلت:
أوّلاً: لم تكن الصّلاة أيّاماً، بل هى صلاة واحدة، وهي صلاة الصبح من يوم الإثنين، فكانت صلاة واحدة.
وثانياً: على فرض أنّه قد صلّى أيّاماً وصلوات عديدة، ففعل رسول اللّه ذلك في آخر يوم من حياته، وخروجه بهذا الشكل معتمداً على رجلين ورجلاه تخطّان على الأرض، دليل على أنّه عزله بعد أن نصبه لو صحّ هذا النصب.
فلو سلّمنا أنّ الآمر بهذه الصّلاة هو رسول اللّه، لو سلّمنا هذا، فرسول اللّه ملتفت إلى أنّهم سيستدلّون بهذه الصلاة على إمامته من بعده، ويجعلون هذا الفعل إشعاراً بالإمامة والخلافة العامة من بعده صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، فخرج بهذا الشكل ليرفع هذا التوهّم وليزيل هذا الإشعار، وهذا موجود في نفس الروايات التي اشتملت في أوّلها على أنّ رسول اللّه هوالآمر بهذه الصلاة بزعمهم.
وهنا نكات:
النكتة الأولى: قالت الروايات :إنّه خرج معتمداً على رجلين، والراوي عائشة بنت أبي بكر ـ كما ذكرنا، الأخبار كلّها تنتهي إليها ـ خرج رسول اللّه معتمداً على رجلين ورجلاه تخطّان الأرض، وتنحّى أبو بكر عن المحراب، وصلّى تلك الصلاة بنفسه الشريفة.
وخروجه بهذه الصّورة، دليل على العزل لو كان هناك نصّ.
وعائشة ذكرت أحد الرجلين اللذين اعتمد عليهما رسول اللّه لدى خروجه، ولم تذكر اسم الرجل الثاني، وقد كان الرجل الثاني علي عليه السّلام، ممّا يدلّ على انزعاجها من هذا الفعل.
يقول ابن عباس للراوي: أسمّتْ لك الرجل الثاني؟ قال: لا.
قال: هو علي، ولكنّها لا تطيب نفساً بأن تذكره بخير(5).
النكتة الثانية:إنّه لمّا رأى بعض القوم أنّ خروج النبي بهذه الصورة وصلاته بنفسه وعزل أبي بكر، سيهدم أساس استدلالهم بهذه الصّلاة على إمامة أبي بكر بعد رسول اللّه، وضع حديثاً في أنّ رسول اللّه لم يعزل أبا بكر، وإنّما جاء إلى الصلاة معتمداً على رجلين، وصلّى خلف أبي بكر(6)، فثبتت القضية وقويت.
وبعبارة أُخرى: رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ينصب أبا بكر عملاً، مضافاً إلى إرساله إلى الصلاة لفظاً وقولاً، إذ يأتي معتمداً على رجلين حينئذ ورجلاه تخّطان الأرض ويصلّي خلف أبي بكر.
ومن الذي يمكنه حينئذ من أنْ يناقش في إمامة أبي بكر وكونه خليفة لرسول اللّه، مع اقتداء رسول اللّه به في الصلاة، ألا يكفي هذا لأن يكون دليلاً على إمامة أبي بكر لمن عدا رسول اللّه؟
نعم، وضعوا هذا الحديث للدلالة على أنّ رسول اللّه اقتدى بأبي بكر.
لكن الشيخين لم يرويا هذا الحديث، أي هذه القطعة من الحديث غير موجودة في الصحيحين، إن المخرج في الكتابين: إنّ رسول اللّه نحّاه أو تنحّى أو تأخّر أبو بكر، وصلّى رسول اللّه بنفسه تلك الصلاة.
أمّا هذا الحديث، فموجود في مسند أحمد، وهو حديث كذب قطعاً، وكذّبه غير واحد من كبار الأئمّة من حفّاظ أهل السنّة، وحتّى أنّ بعضهم كالحافظ أبي الفرج ابن الجوزي ألّف رسالة خاصة في بطلان حديث اقتداء النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بأبي بكر، وهل من المعقول أن يقتدي النبي بأحد أفراد أُمّته، فيكون ذلك الفرد إماماً للنبي؟ هذا غير معقول أصلاً.
رسالة ابن الجوزي مطبوعة منذ ثلاثين سنة تقريباً لأوّل مرّة، نشرتها أنا بتحقيق منّي والحمد للّه(7).
النكتة الثالثة: إنّ النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بعد أن خرج إلى الصّلاة وصلّى بنفسه الشريفة، ونحّى أبا بكر، لم يكتف بهذا المقدار، وإنّما جلس على المنبر بعد تلك الصّلاة، وخطب، وذكّر بالقرآن والعترة، وأمر الناس باتّباعهما والاقتداء بهما، فأكّد رسول اللّه بخطبته هذه ما دلّ عليه فعله، أي حضوره للصلاة وعزله لأبي بكر عن المحراب، ثمّ أضاف في هذه الخطبة بعد الصلاة أنّ على جميع المسلمين أن يخرجوا مع أُسامة، وأكّد على وجوب هذا البعث وعلى الإسراع فيه.
وبعد هذا كلّه، لا يبقى مجال للاستدلال بحديث تقديمه في الصلاة.
(1) مسند أحمد 1 / 356، 6 / 34، صحيح البخاري 1 / 162 و165 كتاب الأذان، صحيح مسلم 2 / 23، سنن ابن ماجة 1 / 389، سنن النسائي 2 / 304.
(2) منهاج السنّة 4 / 276.
(3) فتح الباري 8 / 124.
(4) شرح نهج البلاغة 9 / 198.
(5) مسند أحمد 6 / 34 و38، سنن ابن ماجة 1 / 517.
(6) مسند أحمد 1 / 209.
(7) هذه الرّسالة ألّفها الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي الحنبلي، المتوفّى سنة 597، ردّاً على معاصره الحافظ عبدالمغيث الحنبلي، ولذا أسماها بـ]آفة أصحاب الحديث في الردّ على عبدالمغيث[، طبعت لأوّل مرّة بتحقيقنا سنة 1399.