الدليل الثاني:
الحديث: «إقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر».
هذا الحديث من أحسن أدلّتهم على إمامة الشيخين…، يستدلون بهذا الحديث في كتب الكلام، وفي كتب الأُصول أيضاً، واستناداً إلى هذا الحديث يجعلون اتفاق الشيخين حجة، ويعتبرون سنّة الشيخين إستناداً إلى هذا الحديث حجة، فالحديث مهمّ جدّاً، لاسيّما وأنّه في مسند ]أحمد بن حنبل[(1)، وأيضاً في ]صحيح الترمذي[(2)، وأيضاً في ]مستدرك الحاكم[(3)، فهو حديث موجود في كتب معتبرة مشهورة، ويستدلّون به في بحوث مختلفة.
ولكن بإمكانكم أن ترجعوا إلى أسانيد هذا الحديث، وتدقّقوا النظر في حال تلك الأسانيد، على ضوء أقوال علمائهم في الجرح والتعديل، ولو فعلتم هذا ودقّقتم النظر وتتبعتم في الكتب، لرأيتم جميع أسانيده ضعيفة، وكبار علمائهم ينصّون على كثير من رجال هذا الحديث بالضعف، ويجرحونهم بشتّى أنواع الجرح.
لكنّكم لابدّ وأنْ تطلبون منّي أن أذكر لكم خلاصة ما يقولونه في هذا المقام، وأُقرّب لكم الطريق فلا تحتاجون إلى مراجعة الكتب، فأقول:
قال المنّاوي في شرح هذا الحديث في ]فيض القدير في شرح الجامع الصغير[(4): أعلّه أبو حاتم وقال البزّار كابن حزم لا يصح(5).
فهؤلاء ثلاثة من أئمّتهم يردّون هذا الحديث: أبو حاتم، أبو بكر البزّار، وابن حزم الأندلسي.
والترمذي حيث أورد هذا الحديث في كتابه بأحسن طرقه، يضعّفه بصراحة، فراجعوا كتاب ]الترمذي[ وهو موجود(6).
وإذا ما رجعتم إلى كتاب ]الضعفاء الكبير[ لأبي جعفر العُقيلي، لرأيتموه يقول منكر لا أصل له(7).
وإذا رجعتم إلى ]ميزان الإعتدال[ يقول نقلاً عن أبي بكر النقّاش: وهذا الحديث واه(8).
ويقول الدارقطني ـ وهو أمير المؤمنين في الحديث عندهم في القرن الرابع الهجري ـ : هذا الحديث لا يثبت(9).
وإذا رجعتم إلى كتاب العلاّمة العبري الفرغاني المتوفّى سنة 743 هـ ، يقول في ]شرحه على منهاج البيضاوي[: إنّ هذا الحديث موضوع(10).
ولو رجعتم إلى ]ميزان الاعتدال[ لرأيتم الحافظ الذهبي يذكر هذا الحديث في مواضع عديدة من هذا الكتاب، وهناك يردّ هذا الحديث ويكذّبه ويبطله، فراجعوا(11) إن شئتم.
وإذا رجعتم إلى ]تلخيص المستدرك[ ترونه يتعقّب الحاكم ويقول: سنده واه جدّاً(12).
وإذا رجعتم إلى ]مجمع الزوائد[ للهيثمي حيث يروي هذا الحديث عن طريق الطبراني يقول: وفيه من لم أعرفهم(13).
وإذا رجعتم إلى ]لسان الميزان[(14) لابن حجر العسقلاني الحافظ شيخ الإسلام، لرأيتموه يذكر هذا الحديث في أكثر من موضع، وينصّ على سقوطه.
وإذا رجعتم إلى أحد أعلام القرن العاشر من الهجرة، وهو شيخ الإسلام الهروي، له كتاب ]الدر النضيد من مجموعة الحفيد[ ـ وهذا الكتاب مطبوع موجود ـ يقول: هذا الحديث موضوع(15).
وابن درويش الحوت، يورده في كتابه ]أسنى المطالب في أحاديث مختلفة المراتب[، ويذكر الأقوال في ضعف هذا الحديث وسقوطه وبطلانه(16)(17).
فهذا الحديث ـ إذن ـ لا يليق لأنْ يستدلّ به على مبحث الإمامة، سواء كان يستدلّ به الشيعة الإمامية أو السنّة، حتّى لو أردنا أن نستدلّ عليهم بمثل هذا الحديث لإمامة علي عليه السّلام، وهو حديث تبطله هذه الكثرة من الأئمّة، فلا يمكن الإحتجاج به على القوم لإثبات الإمامة أصلاً، ولا يمكن الإستدلال به في مورد من الموارد.
ولذا نرى بعضهم لمّا يرى سقوط هذا الحديث سنداً، ومن ناحية أُخرى يراه حديثاً مفيداً لإثبات إمامة أبي بكر دلالة ومعنىً، يضطر إلى أن ينسبه إلى الشيخين والصحيحين كذباً.
فالقاري ـ مثلاً ـ ينسب هذا الحديث في كتابه ]شرح الفقه الأكبر[ إلى صحيحي البخاري ومسلم، وليس الحديث موجوداً في الصحيحين، ممّا يدلّ على أنّهم يعترفون بسقوط هذا الحديث سنداً، لكنّهم غافلون عن أنّ الناس سينظرون في كتبهم وسيراجعونها، وسيحقّقون في المطالب التي يذكرونها.
ثمّ كيف يأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بالإقتداء بالشيخين، مع أنّ الشيخين اختلفا في كثير من الموارد، فبمن يقتدي المسلمون؟ وكيف يأمر رسول اللّه بالإقتداء بالشيخين، مع أنّ الصحابة خالفوا الشيخين في كثير ممّا قالا وفعلا؟ وهل بإمكانهم أن يفسّقوا أولئك الصحابة الذين خالفوا الشيخين في أقوالهما وأفعالهما، وتلك الموارد كثيرة جدّاً؟!
(1) مسند أحمد 5 / 382، 385.
(2) صحيح الترمذي 6 / 45 رقم 3663، و137 رقم 3805.
(3) المستدرك على الصحيحين 3 / 75.
(4) فيض القدير 2 / 56.
(5) المصدر 2 / 56.
(6) صحيح الترمذي 6 / 138.
(7) الضعفاء الكبير 4 / 95.
(8) ميزان الإعتدال 1 / 142.
(9) لسان الميزان 5 / 237.
(10) شرح المنهاج: مخطوط.
(11) ميزان الإعتدال 1 / 105، 141 و43 / 610.
(12) تلخيص المستدرك 3 / 75 ـ 76.
(13) مجمع الزوائد 9 / 53.
(14) لسان الميزان 1 / 188، 272 و5 / 237.
(15) الدرّ النضيد من مجموعة الحفيد: 97.
(16) أسنى المطالب في أحاديث مختلفة المراتب: 48.
(17) هذا، وللحافظ ابن حزم الأندلسي في الاستدلال بهذا الحديث كلمة مهمة جدّاً، إنّه يقول ما هذا نصّه: ولو أننا نستجيز التدليس والأمر الذي لو ظفر به خصومنا طاروا به فرحاً أو أبلسوا أسفاً لاحتججنا بما روي: اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر، ولكنّه لم يصح ويعيذنا اللّه من الاحتجاج بما لا يصح» الفصل في الملل والنحل 4 / 88 .