الجهة الثانية
دلالة حديث الطير على إمامة أمير المؤمنين عليه السّلام
إنّ حديث الطير يدلّ على إمامة أمير المؤمنين بالقطع واليقين، وذلك، لأنّ القضيّة التي يتعلّق بها حديث الطير أسفرت عن كون علي عليه السّلام أحبّ الناس إلى اللّه وإلى الرسول، فكأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قد انتهز فرصة إهداء طير إليه ليأكله، انتهز تلك الفرصة للإعلان عن مقام أمير المؤمنين وشأنه عند اللّه والرسول، هذا الشأن الذي سنرى أنّ عائشة تمنّت أن يكون لأبيها، وحفصة تمنّت لأن يكون لأبيها، وأنس بن مالك ـ صاحب القصّة ـ حال دون أن تكون هذه المرتبة والخصيصة الفريدة التي لا تقدّر لأمير المؤمنين، زاعماً أنّه أراد أن يكون لواحد من الأنصار، وربّما سعد بن عبادة بالخصوص، بل سنقرأ في بعض ألفاظ هذا الحديث أنّ الشيخين، وفي سند أنّ عثمان أيضاً، جاؤوا إلى الباب ولم يتشرّفوا بالدخول على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في تلك اللحظة التي كان يدعو اللّه أن يأتي إليه بأحبّ الخلق إلى اللّه وإلى الرسول.
فلنذكر ـ إذن ـ طائفةً من ألفاظ القصّة، لنقف على واقع الأمر أوّلاً، ولنطّلع على تصرّفات القوم في نقل حديث الطير، وكيفيّة تصّرفهم فيه، إمّا إختصاراً له وإمّا نقلاً له بنحو يقلّل من أهميّة القضية فيما يتعلّق بأمير المؤمنين عليه السّلام.
يقول الترمذي في ]صحيحه[(1) عن أنس بن مالك: كان عند النبي صلّى اللّه عليه وآله طير فقال: «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي هذا الطير، فجاء علي فأكل معه».
هذا لفظ الحديث بهذا المقدار في صحيح الترمذي، فلا يذكر فيه دور أنس في القضيّة هذه كما سنقرأ، ولا يذكر مجيء غير علي ورجوعه من باب دار رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله.
وجاء في كتاب ]مناقب علي[ لأحمد بن حنبل(2) ما نصّه: عن سفينة خادم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله الذي هو أحد رواة هذا الحديث يقول: «أهدت امرأة من الأنصار إلى رسول اللّه طيرين بين رغيفين، فقدّمت إليه الطيرين، فقال صلّى اللّه عليه وآله: اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك وإلى رسولك، ورفع صوته، فقال رسول اللّه: من هذا؟ فقال: علي».
لاحظوا نصّ الحديث الذي يرويه أحمد بن حنبل، وقارنوا بينه وبين رواية الآخرين.
ولكم أن تقولوا: لعلّ الآخرين هم الذين قد تصرّفوا في لفظ الحديث بإسقاط كلمة «ورفع صوته» بأن يكون اللّفظ: فقال صلّى اللّه عليه وآله: «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك وإلى رسولك ورفع صوته»، ويكون معنى «رفع صوته» أنّه كان يدعو بصوت عال، لنفرض أنّ هذا لفظ الحديث وهذا معناه، ولا بأس بذلك.
لكن الحقيقة: إنّ لفظ أحمد محرّف، لأنّا سنقرأ في بعض الألفاظ: إنّ عليّاً عندما جاء في المرّة الأُولى فأرجعه أنس ولم يأذن له بالدخول، وفي المرّة الثانية كذلك، ففي المرّة الثالثة لمّا جاء علي رفع صوته، فقال رسول اللّه: من هذا؟
فمن هنا يظهر معنى «ورفع صوته» ويتبيّن التحريف، وإلاّ فأيّ علاقة بين قوله: «اللهمّ ائتني بأحبّ الخلق إليك وإلى رسولك ورفع صوته»، وقوله: «فقال رسول اللّه من هذا؟ فقال: علي» أي: قال سفينة: الذي خلف الباب هو علي، قال افتح له، ففتحت، فأكل مع رسول اللّه من الطيرين حتّى فنيا.
فالتصرف في لفظ الحديث عند أحمد أيضاً واضح تماماً، والتلاعب في هذا اللفظ باد بكلّ وضوح.
أمّا الهيثمي صاحب ]مجمع الزوائد[، فيروي هذا الحديث باللفظ التالي(3):
«عن أنس بن مالك قال: كنت أخدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، فقُدّم فرخاً مشويّاً أو فَقدّم فرخاً مشويّاً ]يقتضي أنْ يكون: فقُدّم فرخ مشويّ، أو فقدّم رسول اللّه فرخاً مشويّاً[ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: «اللهمّ ائتني بأحبّ الخلق إليك وإليّ يأكل معي من هذا الفرخ» فجاء علي ودقّ الباب، فقال أنس: من هذا؟ قال: علي، فقلت ـ أي أنس ـ : النبي على حاجة، وفي بعض الألفاظ: النبي مشغول، أي لامجال للدخول عليه، والحال أنّ النبيّ كان ما زال يدعو: «اللهمّ ائتني بأحبّ الخلق إليك»، قال: النبي على حاجة، فانصرف علي، عاد رسول اللّه مرّة أُخرى يقول: «اللهمّ ائتني بأحبّ الخلق إليك وإليّ يأكل معي من هذا الفرخ»، فجاء علي فدقّ الباب دقّاً شديداً، فسمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، فقال: «يا أنس من هذا؟» قال: علي، قال: «أدخله»، فدخل.
فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: «لقد سألت اللّه ثلاثاً أنْ يأتيني بأحبّ الخلق إليه وإليّ يأكل معي هذا الفرخ».
فقال علي: وأنا يا رسول اللّه، لقد جئت ثلاثاً كلّ ذلك يردّني أنس.
فقال رسول اللّه: «يا أنس، ما حملك على ما صنعت؟»
قال: أحببت أن تدرك الدعوة رجلاً من قومي.
فقال رسول اللّه: «لا يلام الرجل على حبّ قومه».
في هذا الحديث جاء علي مرّتين فردّه أنس قائلاً: رسول اللّه على حاجة، وفي المرّة الثالثة دقّ علي الباب دقّاً شديداً.
وفي بعض الألفاظ: رفع صوته، فسمع رسول اللّه صوت علي وقال لأنس: «إفتح الباب ليدخل علي»، ثمّ اعترض عليه رسول اللّه، أي على أنس، واعتذر أنس كما في الخبر: أحببت أن تدرك الدعوة رجلاً من قومي.
لكن الحديث في ]مسند أبي يعلى[ كما يلي: حدّثنا قطن بن نسير، حدّثنا جعفر بن سليمان الضبعي، حدّثنا عبداللّه بن مثنّى، حدّثنا عبداللّه بن أنس عن أنس قال: أُهدي لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله حجل مشويّ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطعام».
فقالت عائشة: اللهمّ اجعله أبي، وقالت حفصة: اللهمّ اجعله أبي، قال أنس: فقلت أنا: اللهمّ اجعله سعد بن عبادة.
قال أنس: سمعت حركة الباب، فإذا علي، فسلّم، فقلت: إنّ رسول اللّه على حاجة، فانصرف، ثمّ سمعت حركة الباب فسلّم علي، فسمع رسول اللّه صوته، أي رفع علي صوته ]أُريد أنْ أؤكّد أنّ لفظ أحمد محرّف[ فسمع رسول اللّه صوته فقال: «أُنظر من هذا؟» فخرجت، فإذا علي، فجئت إلى رسول اللّه فأخبرته، فقال: «ائذن له»، فأذنت له، فدخل، فقال رسول اللّه: «اللهمّ وإليّ اللهمّ وإليّ».
هذا لفظ أبي يعلى(4).
ولاحظوا الفوارق بين هذا اللفظ ولفظ الهيثمي، ثمّ لفظ الترمذي، ولفظ أحمد بن حنبل.
أمّا في ]الخصائص[ للنسائي(5) ]الذي نصّ الحافظ الذهبي على أنّ كتاب الخصائص داخل في السنن، راجعوا سير أعلام النبلاء(6) وكذا راجعوا مقدمة تهذيب التهذيب(7) لابن حجر العسقلاني[ فيروي النسائي هذا الحديث بسند صحيح، مضافاً إلى أنّ كتابه داخل في السنن الكبرى له الذي يقولون بأنّ له شرطاً في هذا الكتاب أشدّ من شرط الشيخين(8):
عن أنس بن مالك: إنّ النبي صلّى اللّه عليه وآله كان عنده طائر، فقال: «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر»، فجاء أبو بكر فردّه، ثم جاء عمر فردّه، ثمّ جاء علي فأذن له.
وفي ]مسند أبي يعلى[ بنفس السند، ترون مجيء الشيخين ومجيء عثمان أيضاً، قال: «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطير»، فجاء أبو بكر فردّه، ثمّ جاء عمر فردّه، ثمّ جاء عثمان فردّه، ثمّ جاء علي فأذن له(9).
لاحظوا الفوارق بين الألفاظ، وقد تعمّدت التدرج في النقل حتّى تلتفتوا إلى أنّهم إذا أرادوا أن ينقلوا القضيّة الواحدة وهي ليست في صالحهم، كيف يتلاعبون باللّفظ، وكيف ينقصون من القصة، وكيف يسقطون تلك النقاط الحساسة التي يحتاج إليها الباحث الحرّ المصنف في تحقيقه عن سنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، وفي فحصه عن القول الحق من بين الأقوال.
أقول: سند النسائي ـ كما أكّدت ـ صحيح، وهو نفس السند في مسند أبي يعلى، لكنّ بعضهم يحاول أن يناقش في سند هذا الحديث الأخير الذي نقلته عن النسائي وأبي يعلى، ونحن نرحّب بالمناقشة إذا كانت علميّة، وعلى كلّ منصف أن يسلّم لو كانت المناقشة واردة، وحينئذ لرفعنا اليد عن هذا الحديث بهذا اللفظ وتمسّكنا بغيره من الألفاظ، أو تمسّكنا بغير هذا الحديث من الأحاديث، لكن كيف لو كانت المناقشة ظاهرة البطلان، واضحة التعصّب!!
يحاول بعضهم أنْ يناقش في وثاقة أحد رجال هذا السند، وهو السُدّي إسماعيل بن عبدالرحمن، لكنّه من رجال مسلم والترمذي والنسائي وأبي داود، وابن ماجة.
ويقول أحمد بترجمته: ثقة(10).
ويقول غيره من كبار الرجاليين: ثقة(11).
حتّى أنّ ابن عدي المتشدّد في الرجال يقول: هو مستقيم الحديث صدوق.
بل إنّه من مشايخ شعبة بن الحجاج.
وقد ذكرنا أنّ شعبة أمير المؤمنين عندهم في الحديث، وهو لا يروي إلاّ عن ثقة، هكذا يقولون، وممّن يعترف بهذا المعنى أو يدّعي هذا المعنى ابن تيميّة، وينقل السبكي كلامه في كتابه ]شفاء السقام[(12).
فإذا كان الرجل من رجال خمسة من الصحاح الستّة، ويوثّقه أحمد، ويوثّقه العجلي، ويوثّقه ابن عدي، ويوثّقه الآخرون من كبار الرجاليين(13)، فأيّ مناقشة تبقى في السُدي ليطعن الطاعن من هذا الطريق في هذا الحديث الذي هو في نفس الوقت الذي يدلّ على فضيلة لأمير المؤمنين، يدلّ على ما يقابل الفضيلة لمن يقابل أمير المؤمنين؟
وهناك قرائن في داخل الحديث وفي خارجه لا نحتاج إلى ذكرها كلّها، بل نكتفي بالإشارة إلى بعضها:
ففي بعض ألفاظ هذا الحديث يقول صلّى اللّه عليه وآله: «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك وأوجههم عندك»، وهذه الإضافة موجودة في بعض الألفاظ.
وفي بعض الألفاظ: «اللهمّ أدخل عَلَيّ أحبّ خلقك إليّ من الأوّلين والآخرين»(14).
وربّما يدلّ الحديث بهذا اللفظ على أفضليّة أمير المؤمنين من الأوّلين والآخرين، أمّا الآخرون فالأمر فيهم سهل. أمّا الأوّلون، فإنّه يشمل الأنبياء أيضاً، يشمل حتّى أُولي العزم منهم، ويكون هذا الحديث باللفظ المذكور من أدلّتنا على أفضليّة أمير المؤمنين من جميع الأنبياء إلاّ النبي والرسول الأعظم صلّى اللّه عليه وآله.
وفي بعض ألفاظ الحديث يقول أنس: فإذا علي ـ أي فتحت الباب فإذا علي ـ «فلمّا رأيته حسدته»(15).
وفي بعض ألفاظ الحديث: فلمّا نظر إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قام قائماً فضمّه إليه وقال: «يا ربّ وإليّ يا رب وإليّ، ما أبطأ بك يا علي؟»(16).
وفي لفظ آخر بعد تلك العبارات: «ما أبطأ بك يا علي؟».
قال: يا رسول اللّه قد جئت ثلاثاً كلّ ذلك يردنّي أنس.
قال أنس: فرأيت الغضب في وجه رسول اللّه، وقال: «يا أنس ما حملك على ردّه؟» قلت: يا رسول اللّه سمعتك تدعو، فأحببت أن تكون الدعوة في الأنصار.
وكأنّ بهذا العذر زال غضب رسول اللّه!! ذلك الغضب الشديد الذي رآه أنس في وجهه، زال بمجرّد اعتذاره بهذا العذر، حتى أنّه صلّى اللّه عليه وآله لمّا اعتذر أنس هذا العذر قال: لستَ بأوّل رجل أحَبّ قومه(17)!!
وإنّي أعتقد أنّ هذا الكلام عن رسول اللّه مفتعل عليه في حديث الطير: «لا يلام الرجل على حبّ قومه» أو «لستَ بأوّل رجل أحَبّ قومه»، أعتقد أنّ هذه إضافة من المحدّثين، وليس عندي الآن دليل على ذلك، وإنّما أقول: كيف غضب رسول اللّه ذلك الغضب ثمّ زال غضبه بمجرّد اعتذار أنس بهذا العذر الواهي؟ بل ويعتذر له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله!! ألم يكن يعلم رسول اللّه بهذا العذر: لا يلام الرجل على حبّ قومه؟ فلماذا غضب عليه إذن؟ بل قاله له رسول اللّه وكأنّه يلاطفه بعد ذاك الغضب الشديد، كما في هذا الحديث: «لستَ بأوّل رجل أحَبّ قومه، أبى اللّه يا أنس إلاّ أنْ يكون ابن أبي طالب».
هذه قرائن داخليّة في الألفاظ، ولو أردت أن أنقل لكم الألفاظ بكاملها من أوّلها إلى آخرها لطال بنا البحث، لكن تلك المقاطع التي نحتاج إليها ـ كقرائن داخليّة تؤيّد ما نريد أنْ نستدلّ به من هذا الحديث ـ هذه القرائن انتخبتها واستخرجتها بهذا الشكل.
مضافاً: إلى أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام احتجّ بحديث الطير في يوم الشورى.
ولماذا احتجّ؟ وعلى من احتجّ؟
احتجّ على كبار الصحابة الذين انتخبهم عمر، لأنْ يتشاوروا فيما بينهم، فيتعيّن الخليفة في ذلك المجلس، هؤلاء أعلام القوم وأهل الحلّ والعقد.
إذن، احتجّ علي على هؤلاء، ومن المحتج؟ علي أمير المؤمنين، وهل يحتج علي بما ليس له أصل؟ وهل يحتج علي بما هو ضعيف سنداً أو كذب أو موضوع؟ فالمحتج علي، والمحتج عليه أُولئك الأصحاب المنتخبون من قبل عمر لأن يعيَّن من بينهم خليفة عمر، احتجّ علي في ذلك المجلس بحديث الطير(18).
وأيضاً: سعد بن أبي وقّاص الذي أمره معاوية بن أبي سفيان بسبّ علي، فأبى سعد من أن يسب، وسأله معاوية عن السبب، فاعتذر بأنّه سمع من رسول اللّه خلالاً أو خصالاً لعلي، ومادام يذكر تلك الخصال فلن يسب عليّاً، ذلك الحديث الذي قرأناه من قبل، وفيه تحريفات كثيرة كما ذكرت هناك… جاء في بعض ألفاظه:
إنّ سعداً اعتذر من أنْ يسبّ عليّاً بخصال، فذكر الخصال ومنها حديث الطير.
الخصال التي اعتذر بها سعد في هذه الرواية هي: حديث الراية، وحديث الطير، حديث الغدير، وهذه الرواية موجودة في كتاب ]حلية الأولياء[ لأبي نعيم الحافظ، ومن شاء فليراجع(19).
هذا، والشواهد والقرائن الخارجيّة الدالّة على أنّ عليّاً أحبّ الخلق إلى اللّه وإلى الرسول صلّى اللّه عليه وآله دون غيره، كثيرة لا تحصى، واللّه يشهد على ما أقول، وأنتم أيضاً تعلمون، فلا نطيل البحث بذكر تلك الشواهد.
بل في الأحاديث التي بحثنا عنها، والآيات التي درسناها فيما سبق، والتي سنذكرها فيما سيأتي، كفاية لأن تكون شواهد لهذا الحديث.
وما معنى الأحبيّة إلى اللّه وإلى الرسول؟ وأيّ علاقة بين الأحبيّة وبين الإمامة والولاية؟ أي إرتباط بين الأمرين؟
أتتصوّرون أنْ تكون الأحبيّة إلى اللّه وإلى الرسول، ـ بأن يكون الشيء أحب الأشياء إلى اللّه والرسول، أو يكون شخص هو الأحب إلى اللّه وإلى الرسول ـ اعتباطيّة، فلا يكون لها معيار وملاك وضابطة وحساب؟ أيمكن هذا؟ أتحتملون هذا؟ وأنتم بأنفسكم، كلّ واحد منكم إذا أحبّ شيئاً، وجعله أحبّ الأشياء إلى نفسه، أو أحبّ شخصاً واتّخذه أحبّ الناس إلى نفسه، لابدّ وأن يكون له ضابط، قطعاً يكون له سبب، فالأحبيّة ليست أمراً اعتباطيّاً، الإنسان لا يحب كلّ صوت، لا يحبّ كلّ صورة، لا يحبّ كلّ شيء، لابدّ وأن يكون هناك ضوابط للحبّ فكيف الأحبيّة؟ أن يكون شيء أحبّ الأشياء إلى الإنسان من كلّ الأشياء في العالم، أن يكون شخص أحبّ الأشخاص إلى الإنسان من كلّ أفراد الإنسان وبني آدم، يكون هذا بلا حساب وبلا سبب؟ أيمكن هذا ويعقل؟
نحن لكوننا أفراداً من البشر وذي عقول، ونحاول أن تكون أعمالنا وتروكنا عن حكمة، عن سبب، عن علّة، لا نذر شيئاً ولا نختار شيئاً إلاّ لعلّة، إلاّ لحساب، إلاّ لسبب، أيعقل أن تقول بأنّي أُحبّ الكتاب الفلاني وهو أحبّ إليّ من بين جميع كتب العالم، فإذا سئلت عن السبب لا يكون عندك سبب تذكره، لا يكون عندك جواب معقول.
اللّه سبحانه وتعالى، يجعل فرداً من أفراد البشر، وواحداً من خلائقه، أحبّ الخلائق إلى نفسه، ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يتّخذ أحداً ويجعله أحبّ الخلق إليه، أترى يكون هذا بلا حساب، وهل يعقل؟
وجميع التصرّفات التي صدرت من المحدّثين والمؤلّفين في هذا الحديث، وما سنقرأ أيضاً ممّا يحاولونه أمام الإماميّة في استدلالهم بهذا الحديث، كلّ تلك القضايا أدلّة أُخرى وشواهد على أنّ هذا الحديث يدلّ على مقام عظيم لأمير المؤمنين وشأن كبير، وإلاّ لما فعلوا، ولما تصرّفوا، ولما ضربوا وكسروا المنبر، ولما أهانوا المحدّث الحافظ الشهير الكبير عندهم، كما سنقرأ.
ثمّ إنّ الأحبيّة إلى اللّه والرسول لمّا لا تكون اعتباطاً، ولا بدّ من سبب، والمفروض أنّ تلك الأحبية إلى رسول اللّه لم تكن لميول نفسانيّة ولم تكن لأغراض شخصيّة، لأنّ رسول اللّه أعلى وأجلّ وأسمى من أن يحب شخصاً ويجعله أحبّ الخلق إليه لمجرّد ميل نفساني، فما هي تلك الضوابط التي أشرنا إليها؟
نحن لا علم لنا بتلك الضوابط على نحو الدقّة; فالأمر أدقّ من هذا، أدقّ من أن تتوصّل إليه عقولنا وأفهامنا، إنّ الأمر أدقّ من أن نفهم أنّ النبيّ أيّ معيار كان عنده لأنْ يتّخذ أحداً أحبّ الخلق إليه، نحن لسنا بذلك المستوى لأنْ نعرف ملكات رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، حتّى نتمكّن من تعيين من هو أحبّ، اللهمّ إلاّ عن طريق تلك الأحاديث المتواترة القطعيّة الواردة عنه صلّى اللّه عليه وآله، الأحاديث المتفق عليها بين الطرفين.
فأحبيّة شخص إلى رسول اللّه لا يمكن أن تكون لميل نفساني، ولشهوة خاصّة، ولغرض شخصي عند رسول اللّه، فيجعل أحداً أحبّ الخلق إليه ولا يجعل الآخر والآخرين، بل هناك ضوابط، وهي التي تقرّب إليه أبعد الناس وتبعّد عنه أقرب الناس، تلك الضوابط لا بدّ وأن تكون هكذا، وإلاّ فليس من نبيّ مرسل من قبل اللّه سبحانه وتعالى، يفعل ويترك إلاّ عن وحي من اللّه سبحانه وتعالى (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى)(20).
فإذا كانت الإحبّية بملاك، بسبب، وبحساب، تلك الأحبيّة تنتهي إلى الأقربيّة المعنويّة، تنتهي إلى الأفضليّة، تنتهي إلى وجود ما يقتضي أن يكون ذلك الشخص الأحبّ إلى رسول اللّه، أن يكون مقدّماً على غيره في جميع شؤون الحياة.
وإليكم عبارة الحافظ النووي في ]شرح صحيح مسلم[، وهذا حافظ كبير من حفّاظهم، وكتابه هذا من أشهر كتبهم وأكثرها اعتباراً، إنه يقول في معنى محبّة اللّه تعالى لعبده، وأنه ما المراد من هذه الكلمة في النصوص الإسلاميّة والأدلّة الدينيّة، كتاباً وسنّةً:
«محبّة اللّه سبحانه وتعالى لعبده: تمكينه من طاعته، وعصمته، وتوفيقه، وتيسير ألطافه وهدايته، وإفاضة رحمته عليه، هذه مباديها. وأمّا غايتها: فكشف الحجب عن قلبه، حتّى يراه ]أي يرى اللّه تعالى[ ببصيرته فيكون ]هذا الشخص المحبوب للّه سبحانه وتعالى[ كما قال في الحديث الصحيح: فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره»(21).
هذه عبارته، وما ألطفها من عبارة.
فهل من شك حينئذ في استلزام الأحبية للإمامة؟ إنّ من كان محبوباً للّه تعالى يكون له هذه المنزلة، فكيف من كان أحب الخلق إليه؟
عبارة النووي كانت في محبّة اللّه لأحد، أمّا كون هذا الشخص وحده هو الأحبّ من كلّ الخلائق إلى اللّه سبحانه وتعالى، فحدّث ولا حرج، هذا الذي قلت بأنّ أفهامنا تقصر عن درك مثل هذه القضايا، إلاّ أنّنا نتكلّم بقدر ما نفهم.
إذن، لا شكّ ولا ريب في استلزام الأحبيّة للإمامة والخلافة والولاية.
هذا على ضوء الحديث الذي قرأناه برواته وأسانيده وألفاظه، وبعض العبارات المتعلّقة بالمطلب.
فتمّ البحث إلى الآن عن دلالة حديث الطير على الإمامة عن طريق استلزام الأحبيّة للأفضليّة.
(1) صحيح الترمذي 6 / 84 رقم 3731.
(2) فضائل الإمام علي عليه السّلام لأحمد بن حنبل: 42 رقم 68.
(3) مجمع الزوائد 9 / 125.
(4) أنظر: تاريخ مدينة دمشق 42 / 247.
(5) خصائص أمير المؤمنين عليه السلام: 51.
(6) سير أعلام النبلاء 14 / 133.
(7) تهذيب التهذيب 1 / 6.
(8) أنظر: مقدمة سنن النسائي 1 / 3.
(9) مسند أبي يعلى 7 / 105، رقم 4052.
(10) الجرح والتعديل للرازي 2 / 184 رقم 625.
(11) الكامل في ضعفاء الرجال 1 / 278.
(12) شفاء السقام في زيارة خير الأنام: 75.
(13) تهذيب التهذيب 4 / 297 رقم 590.
(14) مناقب الإمام علي بن أبي طالب عليه السّلام: 171 رقم 200.
(15) المصدر: 175 رقم 212.
(16) المعجم الكبير 10 / 282، مناقب الامام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام: 164، رقم 190 و 192 و 193.
(17) أنظر: المستدرك على الصحيحين 3 / 131، المعجم الأوسط 7 / 267.
(18) مناقب الامام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام: 136.
(19) حلية الأولياء 4 / 356.
(20) سورة النجم (53): 3 ـ 4.
(21) المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج 15 / 151.