الجهة الثانية
دلالات حديث الثقلين
قد عرفتم بنحو الإجمال دلالة حديث الثقلين على الإمامة في أثناء البحث عن ألفاظه فقط، فكان الحديث في بعض ألفاظه نصّاً على إمامة وخلافة علي أمير المؤمنين عليه السّلام، وهو في ألفاظه الأُخرى ـ كلفظ «التمسّك» ولفظ «الأخذ» ولفظ «الإتّباع» و«الاعتصام» ونحو ذلك ـ يدلّ على الإمامة والخلافة بالدلالة الإلتزاميّة، من حيث أنّ هذه الألفاظ تدلّ على وجوب «الإتّباع» و«الإنقياد» و«الإطاعة المطلقة»، وهناك ملازمة ثابتة عند الكلّ بين «الإطاعة المطلقة» وبين «الإمامة» و«الخلافة».
وإن كنتم في شك، فارجعوا إلى شرّاح الحديث، بإمكانكم أن ترجعوا إلى فيض القدير في شرح جامع الصغير، وإلى المرقاة في شرح المشكاة، وإلى نسيم الرياض في شرح شفاء القاضي عياض، وإلى شرح المواهب اللدنيّة، والسراج المنير في شرح الجامع الصغير، وحتى إذا ترجعون إلى الصواعق المحرقة، إلى كتاب جواهر العقدين، وإلى أمثال هذه الكتب، لكي تروا كيف يشرحون حديث الثقلين وينصّون على أنه حثٌّ وأمرٌ من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بالإهتداء بهدي أهل البيت، والتعلّم منهم والإقتداء بهم:
يقول المنّاوي: «في هذا الحديث تصريح بأنّهما ـ أي القرآن والعترة ـ كتو أمين خلّفهما وأوصى أُمّته بحسن معاملتهما، وإيثار حقّهما على أنفسهم، والإستمساك بهما في الدين»(1).
ويقول القاري في شرح الحديث: «معنى التمسك بالعترة محبّتهم والإهتداء بهداهم وسيرتهم»(2).
ويقول الزرقاني المالكي ـ وهو أيضاً محقق في الحديث ـ يقول: «وأكّد تلك الوصية وقوّاها بقوله: فانظروا بمَ تخلفوني فيهما بعد وفاتي، هل تتبعونهما فتسرّوني أو لا، فتسيئوني(3).
ويقول ابن حجر المكّي: «حثّ صلّى اللّه عليه وآله على الإقتداء والتمسك بهم والتعلّم منهم»(4).
وحينئذ، يكون من دلالات حديث الثقلين: أعلميّة أهل البيت من غيرهم، بالأعلميّة المطلقة، وهي تستلزم أفضليّتهم، والأفضليّة مستلزمة للإمامة، كما سنقرأ إن شاء اللّه تعالى ونحقّق هذا الموضوع.
إذن، كلّ الصحابة كانوا مأمورين بالرجوع إلى أهل البيت، والإقتداء بهم، والتعلّم منهم، وإطاعتهم والإنقياد لهم.
ومن هنا، فقد جاء في بعض ألفاظ حديث الثقلين ـ كما هو عند الطبراني(5)، وفي ]مجمع الزوائد[(6)، وعند ابن الأثير في ]أُسد الغابة[(7)، وأيضاً في ]الصواعق المحرقة[(8) ـ قال رسول اللّه بعد: «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ما إن تمسّكتم بهما…» قال: «فلا تقدّموهما فتهلكوا، ولا تقصّروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم»، ففي نفس حديث الثقلين توجد هذه الفقرة في رواية القوم.
أمّا الشرّاح فيوضّحون هذه الناحية أيضاً، مثلاً يقول القاري في ]المرقاة[(9): «الأظهر هو أنّ أهل البيت غالباً يكونون أعرف بصاحب البيت وأحواله، فالمراد بهم أهل العلم منهم، المطّلعون على سيرته، الواقفون على طريقته، العارفون بحكمه وحكمته، وبهذا يصلح أن يكونوا عِدلاً لكتاب اللّه سبحانه، كما قال تعالى: (يُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ)»(10).
وإذا راجعتم ]الصواعق[(11) لوجدتم هذه العبارة بالنص يقول: «وفي قوله صلّى اللّه عليه وآله: «فلا تقدّموهم فتهلكوا، ولاتقصّروا عنهم فتهلكوا، ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم» في قوله هذا دليل على أنّ من تأهّل منهم للمراتب العليّة والوظائف الدينيّة كان مقدّماً على غيره».
فتكون هذه الفقرة الدالة على وجوب التعلّم منهم دالّة على إمامتهم وتقدّمهم على غيرهم.
وهذه أيضاً من دلالات حديث الثقلين.
وفي قِران أهل البيت بالقرآن دلالة على عصمة أهل البيت، وعلى وجود شخص من أهل البيت في كلّ زمان، يصلح للإمامة، ولأن يكون قدوة للناس، ولأن يتعلّم منه الناس جميع العلوم الإسلاميّة وجميع الأُمور المحتاج إليها، لابد وأنْ يكون موجوداً في كلّ زمان مادام القرآن موجوداً، وسنبحث عن هاتين الدلالتين في المباحث الآتية، لأنّ مسألة العصمة سنخصّص لها ليلةً، ومسألة إمامة بقيّة الأئمّة أيضاً سنخصّص لها ليلة كذلك.
(1) فيض القدير 3 / 15.
(2) المرقاة في شرح المشكاة 10 / 531.
(3) شرح المواهب اللدنيّة بالمنح المحمّديّة 7 / 7.
(4) الصواعق المحرقة: 231.
(5) المعجم الكبير 5 / 166 ـ 167.
(6) مجمع الزوائد 9 / 164.
(7) أُسد الغابة 2 / 13.
(8) الصواعق المحرقة: 230.
(9) المرقاة في شرح المشكاة 10 / 531.
(10) سورة البقرة (2): 129، سورة آل عمران (3): 164، سورة الجمعة (62): 2.
(11) الصواعق المحرقة: 230.