الاعتراض الرابع:
وهو الاعتراض المهم الذي له وجه علميّ، قالوا: بأنّ عليّاً مفرد، ولماذا جاءت الألفاظ بصيغة الجمع: (وَالَّذينَ آمَنُوا الَّذينَ يُقيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ)؟
هذا الإشكال له وجه، ولايختصّ هذا الإشكال والاعتراض بهذه الآية، عندنا آيات أخرى أيضاً، من ذلك: آية المباهلة التي فسّرناها من قبل، فإنها أيضاً بصيغة الجمع (وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ)، إلاّ أنّ رسول اللّه جاء بعلي فقط، وجاء بفاطمة والحال أنّ اللفظ لفظ جمع (وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ).
هذا الاعتراض يأتي في كثير من الموارد التي تقع مورد الاستدلال، وفي سائر البحوث العلمية المختلفة لا في بحث الإمامة فقط.
الزمخشري الذي هو من كبار علماء العامّة، وليس من أصحابنا الإماميّة، صاحب ]الكشّاف[ وغيره من الكتب الكثيرة في العلوم المختلفة، يجيب عن هذا الإشكال، ومن المعلوم أنّ الكشاف هو تفسير للقرآن من الناحيّة الأدبيّة والبلاغيّة، وهذه هي ميزة هذا الكتاب بالنسبة إلى تفاسير القرآن، كما هو معروف عند أهل الخبرة.
يجيب الزمخشري عن هذا بما ملخّصه: أنّ الفائدة في مجيء اللّفظ بصيغة الجمع في مثل هذه الموارد هو ترغيب الناس في مثل فعل أمير المؤمنين، لينبّه أنّ سجيّة المؤمنين يجب أن تكون على هذا الحدّ من الحرص على الإحسان إلى الفقراء والمساكين، لابدّ وأن يكونوا حريصين على مساعدة الفقراء وإعانة المساكين، حتّى في أثناء الصلاة، وهذا شيء مطلوب من عموم المؤمنين، ولذا جاءت الآية بصيغة الجمع. هذا جواب الزمخشري(1).
فإذن، لا يوافق الزمخشري على هذا الاعتراض، بل يجيب عنه بوجه يرتضيه هو ويرتضيه كثير من علماء الفريقين.
ولكن، لو لم نرتض هذا الوجه ولم نوافق عليه، فقد وجدنا في القرآن الكريم وفي السنّة النبويّة الثابتة الصحيحة، وفي الإستعمالات العربيّة الصحيحة الفصيحة: أنّ اللفظ يأتي بصيغة الجمع والمقصود شخص واحد، وكثير من هذا الإستعمال موجود في القرآن وفي السنّة وفي الموارد الأُخرى.
مضافاً إلى جواب يجيب به غير واحد من العلماء الكبار(2): أنّه في مثل هذا المورد أراد اللّه سبحانه وتعالى أن يعظّم هذه الفضيلة أو هذا الفعل من علي، فجاء بلفظ الجمع إكراماً لعلي ولما فعله في هذه القضيّة.
وتبقى نظرية أُخرى، اختارها السيّد شرف الدين رحمة اللّه عليه أيضاً وجعلها جواباً للسؤال المذكور، وملخّص كلامه أنه: لو جاءت الآية الكريمة بصيغة المفرد، لبادر أعداء أمير المؤمنين من المنافقين إلى التصرّف في القرآن الكريم وتحريف آياته المباركات عداءً لأمير المؤمنين، لا سيّما وإنّها ليست هذه الآية وحدها بل هناك آيات أُخرى أيضاً جاءت بصيغة الجمع، والمراد فيها علي فقط، فلو جاءت بصيغة المفرد وقع التحريف في القرآن من المعاندين لأمير المؤمنين وسقط عن الحجية، وتلك مفسدة كبيرة جداً.
إنّه في مثل هذه الحالة يكون حفظ القرآن من التلاعب أهم، فجاءت الآية على نحو الكناية وهي أبلغ من التصريح، من أن بصيغة الجمع يأتي اللفظ بصيغة المفرد: والذي آمن وصلّى وتصدّق بخاتمه في الصلاة في الركوع أو آتى الزكاة وهو راكع هو علي، لكن اللفظ وإن لم يكن صريحاً باسمه إلاّ أنّه أدل على المطلوب من التصريح(3).
ويؤيّد هذا الوجه رواية واردة عن إمامنا الصادق عليه السّلام(4) بسند معتبر، يقول الراوي للإمام ما معناه: لماذا لم يأت اسم علي في القرآن بصراحة؟ فأجاب الإمام عليه السّلام: لو جاء اسمه بصراحة وبكلّ وضوح في القرآن الكريم، لحذف المنافقون اسمه ووقع التصرّف في القرآن، وقد شاء اللّه سبحانه وتعالى أن يحفظ القرآن (وَإِنّا لَهُ لَحافِظُونَ)(5).
وهذه وجوه تذكر جواباً عن السؤال: لماذا جاءت الكلمة أو الكلمات بصيغة الجمع؟
ولعلّ أوفق الوجوه في أنظار عموم الناس وأقربها إلى الفهم: أنّ هذا الإستعمال له نظائر كثيرة في القرآن الكريم، وفي السنّة النبويّة، وفي الإستعمالات الصحيحة الفصيحة، حيث جاءت الألفاظ بصيغة الجمع لكن المراد واحد أو اثنان، ثم إن الروايات المعتبرة المتّفق عليها دلّت على أنّ المراد هنا خصوص علي عليه السّلام.
إذن، فمجئ اللفظ بصيغة الجمع لابدّ وأن يكون لنكتة، تلك النكتة ذكرها الزمخشري بشكل، والطبرسي بنحو آخر، والسيد شرف الدين بنحو ثالث، وهكذا.
وإذا راجعتم كتاب ]الغدير[(6) لوجدتم الشيخ الأميني رحمة اللّه عليه يذكر قسماً من الآيات التي جاءت بصيغة الجمع وأُريد منها الشخص الواحد، ويذكر الروايات والمصادر التي يستند إليها في شأن نزول تلك الآيات الواردة بصيغة الجمع والمراد منها المفرد.
فإذن، لا غرابة في هذه الجهة.
وكانت تلك عمدة الاعتراضات المطروحة حول هذه الآية المباركة.
إذن، بيّنّا شأن نزول الآية، وبيّنّا وجه الاستدلال بالآية، وتعرّضنا لعمدة المناقشات في هذا الاستدلال، وحينئذ لا يبقى شيء آخر نحتاج إلى ذكره.
نعم، هناك بعض الأحاديث أيضاً ـ كما أشرت من قبل ـ هي مؤيّدة لاستدلالنا بهذه الآية المباركة على إمامة أمير المؤمنين، منها حديث الغدير، ومنها حديث الولاية الذي أشرت إليه من قبل.
فحينئذ، لا أظنّ أنّ الباحث الحر المنصف يبقى متردّداً في قبول استدلال أصحابنا بالآية المباركة على إمامة أمير المؤمنين، فتكون الآية من جملة أدلّة إمامته عن طريق ثبوت الأولويّة له، تلك الأولويّة الثابتة للّه ولرسوله، فيكون علي وليّاً للمؤمنين، كما أنّ النبي وليّ المؤمنين، و هذه المنقبة والفضيلة لم تثبت لغير علي، وقد ذكرنا منذ اليوم الأوّل أنّ طرف النزاع أبو بكر، وليس لأبي بكر مثل هذه المنقبة والمنزلة عند اللّه ورسوله.
وصلّى اللّه على محمّد وآله الطاهرين.
(1) تفسير الزمخشري 1 / 624.
(2) تفسير الفخر الرازي 12 / 28، دلائل الصدق 4 / 312.
(3) المراجعات: 379، دلائل الصدق 4 / 312.
(4) الكافي 1 / 386.
(5) سورة الحجر (15): 9.
(6) الغدير 3 / 163.