آية التطهير و أزواج النبي صلّى اللّه عليه و آله
لكن يبقى هناك في جهة النفي بحث يتعلّق بقولين:
أحدهما: ما يُنقل عن عكرمة مولى عبداللّه بن عباس، فهذا كان يصرّ على أنّ الآية نازلة في خصوص أزواج النبي صلّى اللّه عليه وآله، حتّى أنّه كان يمشي في الأسواق ويعلن عن هذا الرأي، ويخطّئ الناس باعتقادهم باختصاص الآية المباركة بأهل البيت، ممّا يدلّ على أنّ الرأي السائد عند المسلمين كان هذا الرأي، حتّى أنّه كان يقول: من شاء باهلته في أنّ الآية نازلة في أزواج النبي خاصّة، وفي ]تفسير الطبري[: إنّه كان ينادي في الأسواق بذلك(1)، وفي ]تفسير ابن كثير[ أنّه كان يقول: من شاء باهلته أنّها نزلت في نساء النبي خاصّة(2)، وفي ]الدر المنثور[: كان يقول: ليس بالذي تذهبون إليه، إنّما هو نساء النبي(3).
فهذا هو القول الأوّل.
لكنّ هذا القول يبطله:
أوّلاً: أنّه قول غير منقول عن أحد من أصحاب النبي صلّى اللّه عليه وآله.
ثانياً: أنّه قول تردّه الأحاديث الصحيحة المعتبرة المعتمدة المتفق عليها بين المسلمين.
ثالثاً: هذا الرجل كان منحرفاً فكراً وعملاً، وكان معادياً لأهل البيت ومن دعاة الخوارج.
أذكر لكم جملاً ممّا ذُكِر بترجمة هذا الرجل:
كان خارجيّاً بل من دعاتهم، وإنّما أخذ أهل أفريقيّة هذا الرأي ـ أي رأي الخوارج ـ من عكرمة، ولكونه من الخوارج تركه كثير من أئمة الحديث ولم يرووا عنه. قال الذهبي: قد تكلّم الناس في عكرمة، لأنّه كان يرى رأي الخوارج.
بل كان هذا الرجل مستهتراً بالدين، طاعناً في الإسلام، فقد نقلوا عنه قوله: إنّما أنزل اللّه متشابه القرآن ليضلّ به الناس، وقال في وقت الموسم أي موسم الحج: وددت أنّي بالموسم وبيدي حربة فأعترض بها من شهد الموسم يميناً وشمالاً، وإنّه وقف على باب مسجد النبي وقال: ما فيه إلاّ كافر، وذُكِر أنّه كان لا يصلّي، وأنّه كان يرتكب جملة من الكبائر.
وقد نصّ كثير من أئمّة القوم على أنّه كان كذّاباً، فقد كذب على سيّده عبداللّه بن عباس حتّى أوثقه علي بن عبداللّه بن عباس على باب كنيف الدار، فقيل له: أتفعلون هذا بمولاكم؟ قال، إنّ هذا يكذب على أبي.
وعن سعيد بن المسيّب أنّه قال لمولاه: يا برد، أيّاك أن تكذب عليّ كما يكذب عكرمة على ابن عباس.
وعن القاسم بن محمّد بن أبي بكر، الذي هو من فقهاء المدينة المنوّرة: إنّ عكرمة كذّاب.
وعن ابن سيرين: كذّاب.
وعن مالك بن أنس: كذّاب.
وعن يحيى بن معين: كذّاب.
وعن ابن ذويب: كان غير ثقة.
وحرّم مالك الرواية عن عكرمة.
وقال محمّد بن سعد صاحب الطبقات: ليس يحتج بحديثه.
هذه الكلمات بترجمة عكرمة نقلتها: من كتاب ]الطبقات الكبرى [لابن سعد(4)، ومن كلمات ]الضعفاء الكبير[ لأبي جعفر العقيلي(5)، ومن ]تهذيب الكمال[ للحافظ المزي(6)، ومن ]وفيّات الأعيان[(7)، ومن ]ميزان الإعتدال [للذهبي(8)، و]المغني في الضعفاء[ للذهبي(9)، و]سير أعلام النبلاء[ للذهبي(10)، و]تهذيب التهذيب[ لابن حجر العسقلاني(11).
هذه خلاصة ترجمة هذا الشخص.
لكن الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرحه على صحيح البخاري، في مقدمة هذا الشرح(12)، له فصل يدافع فيه عن رجال صحيح البخاري المقدوح فيهم، فيعنون هناك عكرمة مولى ابن عباس ويحاول الذبّ عنه بما أُوتي من حول وقوّة.
إلاّ أنّكم لو رجعتم إلى كلماته لوجدتموه متكلّفاً في أكثرها أو في كلّ تلك الكلمات، وتلك مصادر ترجمة عكرمة ومن أراد التوسّع فليرجع إلى الكتب التي ذكرتها.
ومن طريف ما أُحبّ أن أذكره هنا هو: أنّ عكرمة وإنْ أخرج عنه البخاري إلاّ أن مسلماً قد أعرض عنه، ومن هنا قالوا: إن أصحّ الكتب كتاب البخاري وكتاب مسلم، وأصحّهما كتاب البخاري، فلأمرمّا قدّموا البخاري!! ولي أيضاً شواهد على هذا.
سأقرأ لكم حديث الثقلين من صحيح مسلم، والبخاري لم يرو حديث الثقلين في صحيحه، وسأذكر لكم ـ إن شاء اللّه ـ حديثاً عن صحيح مسلم فيه مطلب مهمّ جدّاً يتعلّق بالشيخين، وقد ذكره البخاري في صحيحه في مواضع متعددة وحرّفه وذكره بألفاظ وأشكال مختلفة.
إذن، كون عكرمة من رجال البخاري لايفيد البخاري ولا يفيد عكرمة; إنّه ربّما يحتجّ لوثاقة عكرمة باعتماد البخاري عليه، ولكن الأمر بالعكس، فإنّ رواية البخاري عن عكرمة من أسباب جرحنا للبخاري، ومن أسباب عدم اعتمادنا عليه،ولو أنّ بعض الكتّاب المعاصرين ـ ولربّما يكون أيضاً من أصحابنا الإماميّة ـ يحاولون الدفاع عن عكرمة، فإنّهم في اشتباه.
وعلى كلّ حال، فالقول باختصاص الآية المباركة بأزواج النبي مردود; إذ لم يرو إلاّ عن عكرمة حيث رفع راية هذا القول، وجعل ينشره بين الناس، وطبيعي أن الذين يكونون على شاكلته فقط سيقبلون منه هذا القول، وأما غيرهم فلا!
الثاني: وهو القول: بأنّ المراد من أهل البيت في هذه الآية المباركة: أهل البيت – أي علي وفاطمة والحسنان ـ والأزواج أيضاً.
وهذا القول إذا رجعنا إلى التفاسير المعتبرة، لوجدنا مثل ابن الجوزي في كتابه ]زاد المسير في علم التفسير[(13) وهو من التفاسير المشهورة ينسبه إلى الضحّاك فقط، ولم نجد في كتاب ابن الجوزي وأمثاله من يعزو هذا القول إلى غير الضحّاك.
أترى أنّ قول الضحّاك وحده يعارض ما روته الصحاح والسنن والمسانيد عن ابن عباس، وعن جابر بن عبداللّه، وعن زيد بن أرقم، وعن سعد بن أبي وقّاص، وعن أُمّ سلمة، وعن عائشة؟
وعجيب أنّ هؤلاء يحاولون أن يذكروا لزوجات النبي فضيلة، والحال أنّهن أنفسهنّ ينفين هذا القول، فأُمّ سلمة وعائشة من جملة القائلين باختصاص الآية المباركة بأهل البيت!!
وكم من عجيب عندهم، وما أكثر العجب والعجيب عندهم!!
يحاولون الدفاع عن الصحابة أجمعين أكتعين كما يعبّر السيد شرف الدين رحمة اللّه عليه(14)، والحال أنّ الصحابة أنفسهم لا يرون مثل هذا المقام لهم، يدّعون العدالة للصّحابة كلّهم جميعاً وهم لا يعلمون بعدالتهم؟!
فأُمّ سلمة وعائشة تنفيان أن تكون الآية نازلة في حقّ أزواج النبي، ويأتي الضحّاك ويضيف إلى أهل البيت أزواج النبي، وكأنّه يريد الإصلاح بين الطرفين والجمع بين الحقّين.
لكنّي وجدت في ]الدر المنثور[(15) حديثاً يرويه السيوطي عن عدّة من أكابر المحدّثين عن الضحّاك، يروي عن النبي صلّى اللّه عليه وآله حديثاً يتنافى مع هذه النسبة إلى الضحّاك.
وأيضاً: الضحّاك الذي نسب إليه ابن الجوزي هذا القول في تفسيره، هذا الرجل أدرجه ابن الجوزي نفسه في ]كتاب الضعفاء[(16)، وذكره العقيلي في كتاب ]الضعفاء[(17)، وأورده الذهبي في ]المغني في الضعفاء[(18)، وعن يحيى بن سعيد القطّان الذي هو من كبار أئمّتهم في الجرح والتعديل أنّه كان يجرح هذا الرجل(19)وذكروا بترجمته أنّه بقي في بطن أُمّه مدّة سنتين(20).
وهذا ما أدري يكون فضيلة له أو يكون طعناً به؟ وكم عندهم من هذا القبيل، يُذكر عن مالك بن أنس أنّه بقي في بطن أمّه أكثر من سنتين أو ثلاث سنوات على ما أتذكّر الآن، وراجعوا كتاب ]وفيّات الأعيان[ لابن خلّكان وغيره(21).
وعلى كلّ حال، فإنّا نرجع إلى ما في الصحاح، والأفضل لهم هنا أن يرجعوا إليها، وهذا ما دعا مثل ابن تيميّة إلى أن يعترف بصحّة حديث نزول الآية في أهل البيت الأطهار واختصاصها بهم(22).
وأمّا الغرض من ذكر عكرمة والضحّاك وإيراد قول هذين الرجلين المجروحين المطعونين في هذا المقام، فهو السّعي وراء تضعيف استدلال الإماميّة بالآية المباركة، والذاكرون أنفسهم يعلمون بعدم صلاحيّة مثل هذه الأقوال للإستدلال!
(1) تفسير الطبري 22 / 7.
(2) تفسير ابن كثير (تفسير القرآن العظيم) 3 / 491.
(3) الدرّ المنثور 6 / 603.
(4) طبقات ابن سعد (الطبقات الكبرى) 5 / 287.
(5) الضعفاء الكبير 3 / 373.
(6) تهذيب الكمال 20 / 264.
(7) وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان 3 / 265.
(8) ميزان الإعتدال في نقد الرجال 3 / 93.
(9) المغني في الضعفاء 2 / 67.
(10) سير أعلام النبلاء 5 / 12.
(11) تهذيب التهذيب 7 / 234.
(12) هدى الساري (مقدمة فتح الباري): 424.
(13) زاد المسير في علم التفسير 6 / 381.
(14) أجوبة مسائل جار اللّه: 15، النص والاجتهاد: 520، أبو هريرة: 7 و185.
(15) الدرّ المنثور 6 / 603.
(16) الضعفاء والمتروكون 2 / 60.
(17) الضعفاء الكبير 2 / 605.
(18) المغني في الضعفاء 1 / 494، رقم 2912.
(19) أنظر المغني في الضعفاء 1 / 494.
(20) الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي 4 / 95.
(21) تهذيب الكمال 27 / 119.
(22) منهاج السنّة 4 / 23.