ولاية العهد
في سنة 198 هجرية بعد قتل محمّد الأمين، وانتقال السلطة إلى أخيه عبد الله المأمون، أحسّ المأمون أنّ الأخطار تهدد دولته من جميع الجهات.
ففي الكوفة: خرج أبو السرايا يدعو لمحمّد بن إبراهيم بن اسماعيل بن الحسن ابن الحسن بن علي عليه السّلام وبايعه الناس.
وفي المدينة: خرج محمّد بن سليمان بن داود بن الحسن، والحسن بن الحسين ابن علي بن الحسين المعروف بالأفطس، ودعا الى ابن طباطبا فلما مات ابن طباطبا دعا الى نفسه، واشتعلت الثورات في أنحاء دولة المأمون، ومع كل ثائر عشرات الألوف يناصرونه على أولئك الجبابرة الذين أقاموا عروشهم على جماجم الأبرياء والصلحاء وقتل الأئمة المعصومين محمّد بن علي الباقر وجعفر بن محمّد الصادق وموسى بن جعفر الكاظم عليه السّلام.
وكانت دولة بني العباس مهددة بالأخطار وكانت أكثر حركات التمرد بقيادة العلويين.
وأدرك المأمون في تلك الفتره ـ وفي أول خلافته ـ حراجة الموقف وأخطاره فلم يجد لبقاء دولته وسيلةً أنفع من التظاهر بالتشيع، وبرغبته في التنازل عن الخلافة الى الإمام الرضا عليه السّلام، وهو يعلم أن الامام سيرفض ذلك، وكان الأمر كذلك. وأخيراً أكرهه على ولاية العهد والإقامة معه في بلد واحد وتظاهر نفاقاً بالولاء له ولآبائه، وأمر الولاة بالدعوة للرضا عليه السّلام على المنابر.
وما يهمه من هذا التضليل الاّ أن يتلافى مشكلة العلويين الذين كانوا يهددون دولة المأمون، وأن يطمئن على موقف الشيعة من خلافته، ولكن المأمون كان يضمر السوء بأن يجعل من الإمام واجهة يستر بها أهدافه ومصالحه، كما يشير الى ذلك ما جاء في جوابه لبني العباس عندما اعترض عليه بعضهم قائلا: يا أميرالمؤمنين، أعيذك بالله أن يكون تاريخ الخلفاء في اخراجك هذا الشرف العميم والفخر العظيم من بيت ولد العبّاس الى بيت ولد علي، اعتب على نفسك وأهلك، جئت بهذا الساحر من ولد السحرة ، وقد كان خاملا فأظهرته، ووضيعاً فرفعته، ومنسياً فذكرت به، ومستخفّاً به فنوهت به، قد ملأ الدنيا مخرقةً وتشوقاً… ما أخوفني أن يخرج هذا الأمر عن ولد العباس الى ولد علي، بل ما أخوفني أن يتوصل بسحره الى ازالة نعمتك والتوثب على مملتك، هل جنا أحد على نفسه وملكه مثل جنايتك؟
فقال المأمون: قد كان هذا الرجل مستتراً عنا يدعو الى نفسه فأردنا أن نجعله وليّ عهدنا ليكون دعاؤه الينا، ولنعرف ما يخالفه والملك لنا، وليعتقد فيه المعترفون به انه ليس مما ادعى في قليل ولا كثير، وأن هذا الأمر لنا من دونه، وقد خشينا ان تركناه على تلك الحالة أن يتفق علينا منه ما لا نسدّه، ويأتي علينا ما لا نطيقه، والآن وإذ قد فعلنا به ما قد فعلنا وأخطأنا في أمره ما أخطأنا وأشرفنا من الهلاك ـ بالتنويه به ـ على ما أشرفنا، فليس يجوز التهاون في أمره، ولكنا نحتاج أن نضع منه قليلا قليلا حتى نصوّره عند الرعايا بصورة من لا يستحق هذا الأمر، ثم ندبّر فيه بما يحسم عنا مواد بلائه»(1).
وبالفعل نجح المأمون في هذا التدبير، فلم يحدث التاريخ بأن أحداً من العلويين خرج على المأمون أو تحرك ضده خلال السنتين اللتين عاشهما الإمام الرضا عليه السّلام بعد ولاية العهد، مراعاة لجانب الإمام، وعامة الشيعة كانوا يعتبرون الإمام شريكاً في الحكم.
وكان الإمام في بيت والمأمون وضع عليه رقابة تحصي عليه أنفاسه، وضيق عليه ومنع عنه مواليه وخاصته، ولم يتكلم الإمام في داره بشيء الاّ يبلغه الحاجب ولم يفسح المجال لبيان ما هو الواقع الاّ لبعض خواصه سراً.
قال محمّد بن عرفة: «قلت للرضا عليه السّلام: يا ابن رسول الله ما حملك على الدخول في ولاية العهد؟ فقال: ما حمل جدي أميرالمؤمنين على الدخول فيالشورى»(2).
قال الريان بن الصلت: «دخلت على علي بن موسى الرضا عليه السّلام، فقلت له: يا ابن رسول الله، الناس يقولون: انك قبلت ولاية العهد مع اظهارك الزهد في الدنيا، فقال عليه السّلام: قد علم الله كراهتي لذلك، فلما خيرت بين قبول ذلك وبين القتل اخترت القبول على القتل، ويحهم أما علموا أن يوسف عليه السّلام كان نبياً ورسولا فلما دفعته الضرورة الى تولي خزائن العزيز (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ)(3) ودفعتني الضرورة الى قبول ذلك على اكراه واجبار بعد الاشراف على الهلاك، على أني ما دخلت في هذا الأمر الاّ دخول خارج منه، فالى الله المشتكى وهو المستعان»(4).
وقال ياسر: «لما ولي الرضا العهد سمعته وقد رفع يده الى السماء وقال: اللهم انك تعلم أني مكره مضطرٌ فلا تؤاخذني كما لم تؤاخذ عبدك ونبيك يوسف حين وقع الى ولاية المصر»(5).
قال الصدوق: «روى بعض أصحابنا عن الرضا عليه السّلام أنه قال له رجل: أصلحك الله كيف صرت الى ما صرت اليه من المامون؟ وكأنه أنكر ذلك عليه، فقال له أبو الحسن الرضا عليه السّلام: يا هذا أيهما أفضل: النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أو الوصي، فقال: لا بل النبي، قال: فأيهما أفضل: مسلم أو مشرك؟ قال: لا بل مسلم قال: فان العزيز عزيز مصر كان مشركاً وكان يوسف عليه السّلام نبياً، وان المأمون مسلم وأنا وصي، ويوسف سأل العزيز أن يوليه حين قال (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ)(6) وأنا اجبرت على ذلك»(7).
البيعة للرضا بولاية العهد:
«وجه المأمون الى الفضل بن سهل فأعلمه أنه يريد العقد له وأمره بالاجتماع مع أخيه الحسن بن سهل على ذلك. ففعل واجتمعا بحضرته، فجعل الحسن يعظم ذلك عليه. ويعرفه ما في إخراج الأمر من أهله عليه. فقال له: اني عاهدت الله أن أخرجها الى أفضل آل أبي طالب ان ظفرت بالمخلوع، وما أعلم أحداً أفضل من هذا الرجل فاجتمعا معه على ما أراد، فأرسلهما الى علي بن موسى فعرضا ذلك عليه فأبى، فلم يزالا به وهو يأبى ذلك ويمتنع منه، إلى أن قال له أحدهما: ان فعلت والاّ فعلنا بك وصنعنا، وتهدده، ثم قال له أحدهما: والله أمرني بضرب عنقك إذا خالفت ما يريد، ثم دعا به المأمون فخاطبه في ذلك فامتنع فقال له قولا شبيهاً بالتهدّد، ثم قال له: ان عمر جعل الشورى في ستة أحدهم جدك، وقال: من خالف فاضربوا عنقه، ولابد من قبول ذلك. فأجابه علي بن موسى الى ما التمس»(8).
قال الشيخ المفيد: «قال المأمون: اني أريد أن خلع نفسي من الخلافة واقلّدك اياها فما رأيك؟ فانكر الرضا عليه السّلام هذا الأمر وقال له: أعيذك بالله يا أمير المؤمنين من هذا الكلام وأن يسمع به أحد، فردّ عليه الرسالة فإذا أبيت ما عرضت عليك فلابدّ من ولاية العهد من بعدي، فأبى عليه الرضا اباءً شديداً فاستدعاه اليه وخلا به ومعه الفضل بن سهل ذو الرياستين ليس في المجلس غيرهم.
وقال له: اني قد رأيت أن أقلدك أمر المسلمين وافسخ ما في رقبتي وأضعه في رقبتك فقال له الرضا عليه السّلام: الله الله يا أميرالمؤمنين انه لا طاقة لي بذلك ولا قوّة لي عليه، قال له: فاني موليك العهد من بعدي. فقال له: اعفني من ذلك يا أميرالمؤمنين، فقال له المأمون كلاماً فيه كالتهدد له على الإمتناع عليه ، وقال في كلامه ان عمر بن الخطاب جعل الشورى في ستة أحدهم جدك أميرالمؤمنين علي ابن أبي طالب عليه السّلام وشرط فيمن خالف منهم ان يضرب عنقه ولا بد من قبولك ما أريده منك فانني لا أجد محيصاً عنه. فقال له الرضا عليه السّلام: فاني أجيبك الى ما تريد من ولاية لعهد على أنني لا آمر ولا أنهى ولا افتي ولا أقضي ولا أولّي ولا أعزل ولا أغير شيئاً مما هو قائم. فأجابه المأمون الى ذلك كله»(9).
وقال: «قال موسى بن سلمة: كنت بخراسان مع محمّد بن جعفر فسمعت أن ذا الرياستين خرج ذات يوم وهو يقول واعجباه وقد ورأيت عجباً سلوني ما رأيت فقالوا: وما رأيت أصلحك الله؟ قال: رأيت المأمون أمير المؤمنين يقول لعلي ابن موسى قد رأيت أن أقلدك أمور المسلمين افسخ ما في رقبتي واجعله في رقبتك، ورأيت علي بن موسى يقول: يا أميرالمؤمنين لا طاقة لي بذلك ولا قوّة، فما رأيت خلافة قط كانت أضيع منها ان أميرالمؤمنين يتفصّى منها ويعرضها على علي ابن موسى وعلي بن موسى يرفضها ويأباها»(10).
روى الصدوق بأسناده عن أبي الصلت الهروي قال: «ان المأمون قال للرضا علي بن موسى عليه السّلام: يا ابن رسول الله قد عرفت فضلك وعلمك وزهدك وورعك وعبادتك واراك أحق بالخلافة مني، فقال الرضا عليه السّلام بالعبودية لله عزّوجل افتخر، وبالزهد في الدنيا أرجو النجاة من شر الدنيا، وبالورع عن المحارم أرجو الفوز بالمغانم، وبالتواضع في الدنيا أرجو الرفعة عند الله تعالى. فقال له المأمون: اني قد رأيت أن أعزل نفسي عن الخلافة واجعلها لك وأبايعك. فقال له الرضا: ان كانت هذه الخلافة لك وجعلها الله لك فلا نجوز لك أن تخلع لباساً ألبسكه الله وتجعله لغيرك، وان كانت الخلافة ليست لك فلا يجوز لك تجعل لي ما ليس لك. فقال له المأمون: يا ابن رسول الله لا بد لك من قبول هذا الأمر فقال: لست أفعل ذلك طايعاً أبداً، فما زال يجهد به أياماً حتى يئس من قبوله، فقال له فان لم تقبل الخلافة ولم تحب مبايعتي لك فكن ولي عهدي لتكون لك الخلافة بعدي، فقال الرضا عليه السّلام: والله لقد حدثني أبي عن آبائه عن أميرالمؤمنين عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أني أخرج من الدنيا قبلك مقتولا بالسم مظلوماً تبكي عليّ ملائكة السماء وملائكة الأرض وادفن في أرض غربة الى جنب هارون الرشيد. فبكى المأمون ثم قال له: يا ابن رسول الله ومن الذي يقتلك أو يقدر على الاساءة اليك وأنا حيُّ؟ قال الرضا عليه السّلام: أما اني لو أشاء ان أقول من الذي يقتلني لقلت، فقال المأمون يا ابن رسول الله: انما تريد بقولك هذا التخفيف عن نفسك ودفع هذا الأمر عنك ليقول الناس انك زاهد في الدنيا قال الرضا عليه السّلام والله ما كذبت منذ خلقني ربي تعالى وما زهدت في الدنيا للدنيا واني لأعلم ما تريد قال المأمون: وما أريد؟ قال الأمان على الصدق؟ قال لك الأمان، قال تريد بذلك أن يقول الناس ان علي بن موسى الرضا لم يزهد في الدنيا بل زهدت الدنيا فيه ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعاً في الخلافة؟ فغضب المأمون، ثم قال انك تتلقاني أبداً بما أكرهه وقد أمنت سطوتي فبالله أقسم لئن قبلت ولاية العهد والا أجبرتك على ذلك، فان فعلت، والا ضربت عنقك، فقال الرضا عليه السّلام قد نهاني الله عزّوجل أن ألقي بيدي الى التهلكة فان كان الأمر على هذا فافعل ما بدا لك وأنا أقبل ذلك، على ان لا أولي أحداً ولا أعزل أحداً ولا انقض رسماً ولا سنة وأكون في الأمر بعيداً مشيراً، فرضي منه بذلك وجعله ولي عهده على كراهة منه لذلك»(11).
قال أبو الفرج: «ثم جلس المأمون في يوم الخميس، وخرج الفضل بن سهل فأعلم الناس برأي المأمون في علي بن موسى، وأنه وليّ عهده، وسماه الرضا وأمرهم بلبس الخضرة، والعود لبيعته في الخميس الآخر على أن يأخذوا رزق سنة، فلما كان ذلك اليوم ركب الناس من القواد والقضاة وغيرهم من الناس في الخضرة وجلس المأمون ووضع للرضا وسادتين عظيمتين حتى لحق بمجلسه وفرشه، وأجلس الرضا عليهما في الحضرة، وعليه عمامة وسيف، ثم أمر ابنه العبّاس بن المأمون فبايع له أول الناس، فرفع الرضا يده فتلقى بظهرها وجه نفسه، وببطنها وجوههم.
فقال له المأمون: ابسط يدك للبيعة.
فقال له: ان رسول الله صلّى الله عليه وآله هكذا كان يبايع، فبايعه الناس ووضعت البدر، وقامت الخطباء والشعراء فجعلوا يذكرون فضل علي بن موسى وما كان من المأمون في أمره.
ثم دعا أبو عبّاد بالعباس بن المأمون، فوثب، فدنا من أبيه فقبّل يده وأمره بالجلوس.
ثم نودي محمّد بن جعفر بن محمّد، فقال له الفضل بن سهل: قم، فقام، فمشى حتى قرب من المأمون ولم يقبّل يده، ثم مضى فأخذ جائزته وناداه المأمون: إرجع يا أبا جعفر الى مجلسك فرجع.
ثم جعل أبو عبّاد يدعو بعلوي وعبّاسي فيقبضان جوائزهما حتى نفدت الأموال، ثم قال المأمون للرضا: قم فاخطب الناس وتكلم فيهم، فقال بعد حمد الله والثناء عليه: ان لنا عليكم حقاً برسول الله صلّى الله عليه وآله ولكم علينا حق به، فإذا أديتم الينا ذلك وجب علينا الحق لكم»(12).
وفي رواية، قال الرازي سمعت أبي يقول حدثني من سمع الرضا عليه السّلام يقول: الحمد لله الذي حفظ منا ما ضيع الناس ورفع منا ما وضعوه حتى لقد لعنّا على منابر الكفر ثمانين عاماً، وكتمت فضائلنا وبذلت الأموال في الكذب علينا، والله تعالى يأبى لنا الاّ أن يعلي ذكرنا ويبيّن فضلنا والله ما هذا بنا، وانما هو برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقرابتنا منه، حتى صار امرنا وما نروي عنه انه سيكون بعدنا من اعظم اياته ودلالات نبوته(13).
ذكر المدائني عن رجاله قال: لما جلس الرضا علي بن موسى في الخلع بولاية العهد، قام بين يديه الخطباء والشعراء وخفقت الألوية على رأسه فذكر عن بعض من حضر ممّن كان يختص بالرضا عليه السّلام انه قال كنت بين يديه في ذلك اليوم فنظر اليّ وأنا مستبشر بما جرى، فأومأ اليّ ان ادن فدنوت منه فقال لي من حيث لا يسمعه غيري لا تشغل قلبك بهذا الأمر ولا تستبشر له فانه شيء لا يتم(14).
وقال ابن جهم: رأيت اكرام المأمون للرضا فقلت للرضا: الحمد لله على ما أرى من اكرامه لك فقال: لا يغرنك ما رأيت فانه سيقتلني بالسم وهو ظالم واكتم هذا(15).
قال ياسر الخادم والريان بن الصلت جميعاً لما حضر العيد ـ وكان قد عقد للرضا عليه السّلام الأمر بولاية العهد ـ بعث المأمون اليه في الركوب الى العيد، والصلاة بالناس والخطبة لهم، فبعث اليه الرضا عليه السّلام: قد علمت ما كان بيني وبينك من الشروط في دخول الأمر، فاعفني من الصلاة بالناس. فقال له المأمون: انما أريد بذلك أن تطمئن قلوب الناس ويعرفوا فضلك. ولم تزل الرّسل تتردد بينهما في ذلك، فلما ألحّ عليه المأمون أرسل اليه: ان أعفيتني فهو أحب الي، وان لم تعفني خرجت كما خرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وأميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام، فقال له المأمون: أخرج كيف شئت. وأمر القواد والحجّاب والناس أن يبكّروا الى باب الرضا عليه السّلام.
قال فقعد الناس لأبي الحسن عليه السّلام في الطرقات والسطوح واجتمع النساء والصبيان ينتظرون خروجه، وصار جميع القوّاد والجند الى بابه فوقفوا على دوابهم حتى طلعت الشمس، فاغتسل أبو الحسن عليه السّلام ولبس ثيابه وتعمم بعمامة بيضاء من قطن، ألقى طرفاً منه على صدره وطرفاً بين كتفه ومسّ شيئاً من الطيب، وأخذ بيده عكازة وقال لمواليه: افعلوا مثل ما فعلت. فخرجوا بين يديه وهو حاف قد شمّر سراويله الى نصف الساق وعليه ثياب مشمّرة، فمشى قليلا ورفع رأسه الى السماء وكبّر وكبّر مواليه معه، ثم مشى حتى وقف على الباب، فلما رآه القوّاد والجند على تلك الصورة سقطوا كلهم عن الدواب الى الأرض وكان أحسنهم حالا من كان معه سكين قطع بها شرابة حاجيلته(16) ونزعها وتحفّى، وكبّر الرضا على الباب وكبّر الناس معه، فخيّل الينا أن السماء والحيطان تجاوبُهُ وتزعزعت مرو بالبكاء والضجيج لما رأوا أبا الحسن عليه السّلام وسمعوا تكبيره.
وبلغ المأمون ذلك فقال له الفضل بن سهل ذو الرياستين: يا أميرالمؤمنين ان بلغ الرضا المصلّى على هذا السبيل افتتن به الناس وخفنا كلنا على دمائنا، فأنفذ اليه أن يرجع. فبعث اليه المأمون: قد كلفناك شططاً وأتعبناك ولسنا نحب أن تلحقك مشقة فارجع وليصل بالناس من كان يصلي بهم على رسمه.
فدعى أبو الحسن عليه السّلام بخفّه فلبسه وركب ورجع، واختلف أمر الناس في ذلك اليوم ولم ينتظم أمر صلاتهم»(17).
(1) فرائد السمطين ج2 ص214، ورواه المجلسي في البحار ج49 ص182.
(2) مناقب ال أبي طالب لابن شهر آشوب ج4 ص314.
(3) سورة يوسف: 55.
(4) عيون أخبار الرضا ج2 ص139 رقم 2.
(5) البحار ج49 ص130 رقم 5.
(6) سورة يوسف: 55.
(7) عيون أخبار الرضا ج2 ص138 رقم 1.
(8) مقاتل الطالبيين ص562.
(9) الإرشاد ص290.
(10) الارشاد ص290.
(11) علل الشرايع ص237 باب 173 رقم 1.
(12) مقاتل الطالبيين ص563.
(13) عيون أخبار الرضا ج2 ص164 رقم 26.
(14) الارشاد للشيخ المفيد ص292، والأربلي في كشف الغمة ج2 ص277 مع فرق وابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة ص256.
(15) الغرفة للسيد شاه عبد العظيمي مخطوط ص205.
(16) جاجيلته: نوع من النعل.
(17) الإرشاد ص293، ورواه الاربلي في كشف الغمة ج2 ص278.