والدة المهدي
روى الشيخ الصدوق بسنده عن بشر بن سليمان النخّاس، قال: «كان مولانا أبو الحسن علي بن محمّد العسكري عليهما السلام فقّهني في أمر الرقيق فكنت لا أبتاع ولا أبيع الاّ بإذنه، فاجتنبت بذلك موارد الشبهات حتى كملت معرفتي فيه فأحسنت الفرق بين الحلال والحرام.
فبينما أنا ذات ليلة في منزلي بسرّ من رأى وقد مضى هويّ من الليل، اذ قرع الباب قارع فعدوت مسرعاً فإذا أنا بكافور الخادم رسول مولانا أبي الحسن علي ابن محمّد عليه السّلام يدعوني اليه فلبست ثيابي ودخلت عليه فرأيته يحدث ابنه أبا محمّد واخته حكيمة من وراء الستر، فلمّا جلست قال: يا بشر انك من ولد الأنصار وهذه الولاية لم تزل فيكم يرثها خلف عن سلف، فأنتم ثقاتنا أهل البيت واني مزكيك ومشرّفك بفضيلة تسبق بها شأو الشيعة في الموالاة بها، بسرّ أطلعك عليه وانفذك في ابتياع أمة. فكتب كتاباً ملصقاً بخطّ رومي ولغة روميّة، وطبع عليه بخاتمه، واخرج شستقة صفراء فيها مائتان وعشرون ديناراً، فقال: خذها وتوجه بها الى بغداد واحضر معبر الفرات ضحوة كذا، فإذا وصلت الى جانبك زواريق السبايا وبرزن الجواري منها، فستحدق بهم طوائف المبتاعين من وكلاء قوّاد بني العباس وشراذم من فتيان العراق فإذا رأيت ذلك فأشرف من البعد على المسمّى عمر بن يزيد النخاس عامّة نهارك الى أن يبرز للمبتاعين جارية صفتها كذا وكذا، لا بسة حريرتين صفيقتين، تمتنع من السفور ولمس المعترض والانقياد لمن يحاول لمسها ويشغل نظره بتأمّل مكاشفها من وراء الستر الرقيق فيضربها النخاس فتصرخ صرخة روميّة، فاعلم أنها تقول: واهتك ستراه، فيقول بعض المبتاعين عليّ بثلاثمائة دينار فقد زادني العفاف فيها رغبة، فتقول بالعربية: لو برزت في زيّ سليمان وعلى مثل سرير ملكه ما بدت لي فيك رغبة فأشفق على مالك، فيقول النخاس: فما الحيلة ولابدّ من بيعك، فتقول الجارية: وما العجلة ولابدّ من اختيار مبتاع يسكن قلبي اليه والى أمانته وديانته، فعند ذلك قم الى عمر بن يزيد النخاس وقل له: إن معي كتاباً ملصقاً لبعض الأشراف كتبه بلغة روميّة وخطّ رومي، ووصف فيه كرمه ووفاءه ونبله وسخائه فناولها لتتأمّل منه اخلاق صاحبه، فان مالت اليه ورضيته فأنا وكيله في ابتياعها منك.
قال بشر بن سليمان النخاس: فامتثلت جميع ما حدّه لي مولاي أبو الحسن عليه السّلام في أمر الجارية، فلما نظرت في الكتاب بكت بكاء شديداً وقالت لعمر ابن يزيد النخاس: بعني من صاحب هذا الكتاب، وحلفت بالمحرجة المغلّظة انه متى امتنع من بيعها منه قتلت نفسها، فمازلت أشاحّه في ثمنها حتى استقر الأمر فيه على مقدار ما كان أصحبنيه مولاي عليه السّلام من الدنانير في الشستقة الصفراء، فاستوفاه مني وتسلمت منه الجارية ضاحكة مستبشرة وانصرفت بها الى حجرتي التي كنت آوي اليها ببغداد، فما أخذها القرار حتى أخرجت كتاب مولاها عليه السّلام من جيبها وهي تلثمه وتضعه على خدّها وتطبقه على جفنها وتمسحه على بدنها، فقلت تعجباً منها: أتلثمين كتاباً ولا تعرفين صاحبه؟
قالت: أيها العاجز الضعيف المعرفة بمحل أولاد الأنبياء، اعرني سمعك وفرّغ لي قلبك، أنا مليكة بنت يشوعا بن قيصر ملك الروم، وأمي من ولد الحواريين تنسب الى وصي المسيح شمعون، أنبّئك العجب العجيب: ان جدي قيصر أراد أن يزوّجني من ابن أخيه وأنا من بنات ثلاث عشرة سنة، فجمع في قصره من نسل الحواريين ومن القسّيسين والرهبان ثلاثمائة رجل، ومن ذوي الأخطار سبعمائة رجل، وجمع من أمراء الأجناد وقوّاد العساكر ونقباء الجيوش وملوك العشائر أربعة آلاف، وأبرز من بهو ملكه عرشاً مصنوعاً من أصناف الجواهر الى صحن القصر فرفعه فوق أربعين مرقاة، فلما صعد ابن أخيه واحدقت به الصلبان وقامت الأساقفة عكفاً ونشرت أسفار الانجيل، تسافلت الصلبان من الأعالي فلصقت بالأرض، وتقوّضت الأعمدة فانهارت الى القرار، وخرّ الصاعد من العرش مغشيّاً عليه، فتغيرت ألوان الأساقفة وارتعدت فرائصهم، فقال كبيرهم لجدي: أيها الملك أعفنا من ملاقاة هذه النحوس الدالة على زوال هذا الدين المسيحي والمذهب الملكاني، فتطيّر جدي من ذلك تطيراً شديداً، وقال للأساقفه: أقيموا هذه الأعمدة، وارفعوا الصلبان، واحضروا أخا هذا المدبّر العاثر المنكوس جدّه لأزوّج منه هذه الصبيّة فيدفع نحوسه عنكم بسعوده، فلمّا فعلوا ذلك حدث على الثاني ما حدث على الأول، وتفرق الناس وقام جدي قيصر مغتماً ودخل قصره وأرخيت الستور.
فأريت في تلك الليلة كأنّ المسيح وشمعون وعدّة من الحواريين قد اجتمعوا في قصر جدّي ونصبوا فيه منبراً يباري السماء علوّاً وارتفاعاً في الموضع الذي كان جدّي نصب فيه عرشه، فدخل عليهم محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم مع فتية وعدّة من بنيه فيقوم اليه المسيح فيعتنقه فيقول: يا روح الله اني جئتك خاطباً من وصيك شمعون فتاته مليكة لابني هذا وأمأ بيده الى أبي محمّد صاحب هذا الكتاب، فنظر المسيح الى شمعون فقال له: قد أتاك الشرف فصل رحمك برحم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: قد فعلت، فصعد ذلك المنبر وخطب محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم وزوجني وشهد المسيح عليه السّلام وشهد بنو محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم والحواريون.
فلمّا استيقظت من نومي أشفقت أن أقصّ هذه الرؤيا على أبي وجدي مخافة القتل، فكنت أسرُّها في نفسي ولا أبديها لهم، وضرب صدري بمحبة أبي محمّد حتى امتنعت من الطعام والشراب وضعفت نفسي ودقّ شخصي ومرضت مرضاً شديداً، فما بقي من مدائن الروم طبيب الاّ أحضره جدّي وسأله عن دوائي، فلما برح به اليأس قال: يا قرّة عيني فهل تخطر ببالك شهوة فازوّدكيها في هذه الدنيا؟ فقلت: يا جدي أرى أبواب الفرج عليَّ مغلقة، فلو كشفت العذاب عمّن في سجنك من أسارى المسلمين وفككت عنهم الأغلال وتصدقت عليهم ومننتهم بالخلاص لرجوت أن يهب المسيح وأمه لي عافية وشفاء، فلما فعل ذلك جدي تجلدت في اظهار الصحة في بدني وتناولت يسيراً من الطعام، فسرّ بذلك جدي واقبل على إكرام الأسارى واعزازهم.
فرأيت أيضاً بعد أربع ليال كأن سيدة النساء قد زارتني ومعها مريم بنت عمران وألف وصيفة من وصائف الجنان فتقول لي مريم: هذه سيدة النساء أم زوجك أبي محمّد عليه السّلام فأتعلق بها وأبكي وأشكو اليها امتناع أبي محمّد من زيارتي، فقالت لي سيدة النساء عليها السلام: ان ابني أبا محمّد لا يزورك وأنت مشركة بالله وعلى مذهب النصارى، وهذه أختي مريم تبرأ الى الله تعالى من دينك، فان ملت الى رضا الله عزّوجل ورضا المسيح ومريم عنك وزيارة أبي محمّد اياك فقولي: أشهد أن لا اله الاّ الله وأشهد أن أبي محمّداً رسول الله، فلما تكلمت بهذه الكلمة ضمّتني سيدة النساء الى صدرها فطيبت لي نفسي وقالت: الآن توقعي زيارة أبي محمّد اياك فاني منفذته اليك، فانتبهت وأنا أقول: واشوقاه الى لقاء أبي محمّد.
فلما كانت الليلة القابلة جاءني أبو محمّد عليه السّلام في منامي فرأيته كأني أقول له: جفوتني يا حبيبي بعد أن شغلت قلبي بجوامع حبّك؟ قال: ما كان تأخيري عنك الاّ لشركك، واذ قد أسلمت فاني زائرك في كل ليلة الى أن يجمع الله شملنا في العيان، فما قطع عني زيارته بعد ذلك الى هذه الغاية.
قال بشر: فقلت لها: وكيف وقعت في الأسر فقالت: أخبرني أبو محمّد ليلة من الليالي أن جدّك سيسرب جيوشاً الى قتال المسلمين يوم كذا، ثمّ يتبعهم فعليك باللحاق بهم متنكّرة في زيّ الخدم مع عدّة من الوصائف من طريق كذا، ففعلت فوقعت علينا طلائع المسلمين حتى كان من أمري ما رأيت وما شاهدت وما شعر أحدٌ بي بأني ابنة ملك الروم الى هذه الغاية سواك، وذلك باطلاعي ايّاك عليه، ولقد سألني الشيخ الذي وقعت اليه في سهم الغنيمة عن اسمي فأنكرته، وقلت: نرجس، فقال: اسم الجواري، فقلت: العجب انك روميّة ولسانك عربي؟ قالت: بلغ من ولوع جدّي وحمله ايّاي على تعلّم الآداب أن أوعز الى امرأة ترجمان له في الاختلاف اليّ، فكانت تقصدني صباحاً ومساءً وتفيدني العربيّة حتى استمر عليها لساني واستقام.
قال بشر: فلما انكفأت بها الى سرّ من رأى دخلت على مولانا أبي الحسن العسكري عليه السّلام فقال لها: كيف أراك الله عزّ الاسلام وذل النصرانية، وشرف أهل بيت محمّد صلّى الله عليه وآله؟ قالت: كيف أصف لك يا ابن رسول الله ما أنت اعلم به مني؟ قال: فاني أريد ان أكرمك فأيّما أحب اليك عشرة آلاف درهم؟ أم بشرى لك فيها شرف الأبد؟ قالت: بل البشرى، قال عليه السّلام: فأبشري بولد يملك الدنيا شرقاً وغرباً ويملأ الأرض قسطاً وعدلا كما ملئت ظلماً وجوراً، قالت: ممّن؟ قال عليه السّلام: ممن خطبك رسول الله صلّى الله عليه وآله له من ليلة كذا من شهر كذا من سنة كذا بالروميّة قالت: من المسيح ووصيه؟ قال فممّن زوّجك المسيح ووصيه، قالت: من ابنك أبي محمّد؟ قال: فهل تعرفينه؟ قالت: وهل خلوت ليلة من زيارته ايّاي منذ الليلة التي أسلمت فيها على يد سيدة النساء أمّه؟ فقال أبو الحسن عليه السّلام: يا كافور أدع لي أختي حكيمة، فلما دخلت عليه قال عليه السّلام لها: هاهيه ، فاعتنقتها طويلا وسرّت بها كثيراً، فقال لها مولانا: يا بنت رسول الله أخرجيها الى منزلك وعلّميها الفرائض والسنن فانها زوجة أبي محمّد وأم القائم عليه السّلام»(1).
وروى الشيخ الطوسي بسند آخر عن بشر بن سليمان النخاس نظير ما تقدم مع اختلاف يسير في بعض الألفاظ(2).
وروى ابن شهر آشوب شطراً من هذه الرواية في (مناقب ال أبي طالب ج3 ص538)(3).
(1) كمال الدين ص418.
(2) الغيبة ص124.
(3) وقال الشيخ كامل سليمان: «ولدته نرجس بنت يشوعا بن قيصر ملك الروم، التي أمها من ولد الحواريين، تنسب الى شمعون وصي المسيح عليه السّلام سارت مع جيش أبيها متنكرة في زيّ الخدم مع عدّة من وصائفها، ليداوين الجرحى في حرب من حروب المسلمين في جنوبي شرقي أوروبا، فصادفتهن طلائع جيش المسلمين بعد هزيمة جيش العدو، فاخذتهن أسيرات وما أحسّ أحدٌ بأنها بنت قيصر.
وعندما عرضت للبيع مع السبايا غيّرت اسمها وقالت: اسمي نرجس، لأنه اسم تسمّى به الجواري، كان والدها قد علمها لغات مختلفة من جملتها اللغة العربية التي استمر لسانها عليها وألفها واستقام لها جيّداً. وكان ذلك أيام الامام الهادي عليه السّلام، فكلّف أحد أصحابه (بشر بن سليمان النخاس) بشرائها حين وصلت اليه قصتها وعرف بابائها أن تباع لمن عرضوا عليها، لأنه كان يعلم انّها مرصودة لولده فتم ذلك واشتراها صاحبه وأحضرها اليه فكلّف خادمه كافوراً ان يستدي له أمته السيدة الجليلة حكيمة، فجاءت فقال لها هاهية، فخذيها وعلّميها الفرائض فانّها زوجة ابني أبي محمّد، وأم القائم عليه السّلام. (يوم الخلاص ص61).