مناقب الإمام موسى بن جعفر
قال محمّد بن طلحة: «أما مناقبه فكثيرة ولو لم يكن منها الاّ العناية الربانية لكفاه ذلك منقبة»(1).
قال ابن شهر آشوب: «وسمي الكاظم لما كظمه من الغيظ وغض بصره عما فعل الظالمون به، حتى مضى قتيلا في حبسهم، والكاظم الممتلىء خوفاً وحزناً.. وقال الربيع بن عبد الرحمان: كان والله من المتوسمين فيعلم من يقف عليه بعد موته ويكظم غيظه عليهم ولا يبدي لهم ما يعرفه منهم فلذلك سمي الكاظم.. وكان أفقه أهل زمانه وأحفظهم لكتاب الله وأحسنهم صوتاً بالقرآن، فكان إذا قرأ يحزن ويبكي ويبكي السامعون لتلاوته، وكان أجل الناس شأناً، وأعلاهم في الدين مكاناً، وأسخاهم بياناً، وأفصحهم لساناً وأشجعهم جناناً، قد خص بشرف الولاية وحاز ارث النبوة، وبوّىء محل الخلافة، سليل النبوة، وعقيد الخلافة»(2).
قال علي بن عيسى الأربلي: «مناقب الكاظم وفضائله ومعجزاته الظاهرة، ودلائله وصفاته الباهرة ومخائله تشهد أنه افترع قبّة الشرف وعلاها، وسما إلى أوج المزايا فبلغ أعلاها، وذلّلت له كواهل السيّادة فركبها وامتطاها، وحكم في غنائم المجد فاختار صفاياها واصطفاها.
طالت أصوله فسمت الى أعلى رتب الجلال، وطابت فروعه فعلت إلى حيث لا تنال، يأتيه المجد ممن كل أطرافه، ويكاد الشرف يقطر من أعطافه.
أتاه المجد من هنّا وهنّا *** وكان له كمجتمع السيول
السحاب الماطر قطرة من كرمه، والعباب الزّاخر نغبة من نغبه، واللباب الفاخر من عدّ من عبيده وخدمه، كأن الشعرى علّقت في يمينه ولا كرامة للشعرى العبور، وكأن الرياض اشبهت خلائقه ولا نعمى لعين الرّوض الممطور، وهو عليه السّلام غرة في وجه الزمان وما الغرر والحجول، وهو أضوأ من الشمس والقمر، وهذا جهد من يقول، بل هو والله أعلى مكانة من هذه الأوصاف واسمى، وأشرف عرفاً من هذه النعوت وأنمى، فكيف تبلغ المدائح كنه مقداره أو ترتقي همة البليغ الى نعت فخاره، أو تجري جياد الأقلام في حلبات صفاته، أو يسري خيال الأوهام في ذكر حالاته؟
كاظم الغيظ، وصائم القيظ، عنصره كريم، ومجده حادث وقديم، وهو بكل ما يوصف به زعيم، الآباء عظام والأبناء كرام، والدين متين والحق ظاهر مبين، والكاظم في أمر الله قويّ أمين، وجوهر فضله غال ثمين، وواصفه لا يكذب ولا يمين، قد تلقى راية الإمامة باليمين، فسما عليه السّلام إلى الخيرات منقطع القرين، وأنا أحلف على ذلك فيه وفي آبائه وأبنائه عليه السّلام باليمين.
كم له من فضيلة جليلة، ومنقبة بعلوّ شأنه كفيلة، وهي وان بلغت الغاية بالنسبة اليه قليلة، ومهما عدّ من المزايا والمفاخر فهي فيهم صادقة وفي غيرهم مستحيلة، اليهم ينسب العظماء وعنهم يأخذ العلماء، ومنهم يتعلم الكرماء، وهم الهداة الى الله فبهداهم اقتده، وهم الأدلاّء على الله فلا تحل عنهم ولا تنشده، وهم الأمناء على أسرار الغيب، وهم المطهرون من الرجس والعيب، وهم النجوم الزواهر في الظلام، وهم الشموس المشرقة في الأيام، وهم الذينه أوضحوا شعار الاسلام وعرفوا الحلال من الحرام، من تلق منهم تقل لا قيت سيداً، ومتى عددت منهم واحداً كان بكل الكمالات منفرداً ومن قصدت منهم حمدت قصدك مقصداً، ورأيت من لا يمنعه جوده اليوم أن يجود غداً، ومتى عدت اليه عاد كما بدا، المائدة والأنعام يشهدان بحالهم، والمائدة والأنعام يخبران بنوالهم، فلهم كرم الأبوّة والبنوّة، وهم معادن الفتّوة والمرّوة، والسماح في طبايعهم غريزة، والمكارم لهم شنشنة ونحيزة(3)، والأقوال في مدحهم وان طالت وجيزة، بحور علم لا تنزف، وأقمار عز لا تخسف، وشموس مجد لا تكسف، مدح أحدهم يصدق على الجميع وهم متعادلون في الفخار فكلهم شريف رفيع، بذّوا الأمثال بطريفهم وتالدهم ولا مثيل، ونالوا النجوم بمفاخرهم ومحامدهم فانقطع دون شأواهم العديل ولا عديل، فمن الذي ينتهي في السير الى أمدهم وقد سدَّ دونه السبيل، أمّن لهم يوم كيومهم أو غد كغدهم، ولو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم صلّى الله عليهم صلاة نامية الأمداد، باقية على الآباد مدخرة ليوم المعاد، انه كريم جواد»(4).
روى المجلسي من كتاب قضاء حقوق المؤمنين لأبي علي بن طاهر الصوري بإسناده عن رجل من أهل الري قال: «ولي علينا بعض كتاب يحيى بن خالد وكان علي بقايا يطالبني بها وخفت من الزامي اياها خروجاً عن نعمتي وقيل لي: انه ينتحل هذا المذهب، فخفت أن أمضي اليه فلا يكون كذلك فأقع فيما لا أحب، فاجتمع رأيي على أني هربت الى الله تعالى وحججت ولقيت مولاي الصابر يعني موسى بن جعفر عليه السّلام فشكوت حالي اليه، فأصحبني مكتوباً نسخته: بسم الله الرّحمن الرّحيم، اعلم أن لله تحت عرشه ظلا لا يسكنه الاّ من اسدى الى أخيه معروفاً أو نفّس عنه كربة أو أدخل على قلبه سروراً، وهذا أخوك والسلام.
قال: فعدت من الحج الى بلدي ومضيت الى الرجل ليلا واستأذنت عليه وقلت: رسول الصابر عليه السّلام، فخرج الي حافياً ماشياً ففتح لي بابه وقبلني وضمني اليه وجعل يقبل بين عيني ويكرّر ذلك كلما سألني عن رؤيته عليه السّلام، وكلما أخبرته بسلامته وصلاح أحواله استبشر وشكر الله، ثم أدخلني داره وصدرني في مجلسه وجلس بين يدي، فأخرجت اليه كتابه عليه السّلام فقبله قائماً وقرأه، ثم استدعى بماله وثيابه فقاسمني ديناراً ديناراً ودرهماً درهماً وثوباً ثوباً وأعطاني قيمة ما لم يمكن قسمته، وفي كل شيء من ذلك يقول: يا أخي هل سررتك؟ فأقول: أي والله وزدت علي السرور، ثم استدعى العمل فأسقط ما كان باسمي وأعطاني براءة مما يتوجّه علي منه، وودّعته وانصرفت عنه.
فقلت: لا أقدر على مكافأة هذا الرجل الاّ بأن أحج في قابل وأدعو له وألقى الصابر عليه السّلام وأعرفه فعله، ففعلت ولقيت مولاي الصابر عليه السّلام وجعلت أحدثه ووجهه يتهلل فرحاً، فقلت: يا مولاي هل سرّك ذلك؟ فقال: اي والله، لقد سرّني وسرّ أمير المؤمنين، والله لقد سرّ جدي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ولقد سرّ الله تعالى»(5).
(1) مطالب السؤول ص225 مخطوط.
(2) المناقب ج4 ص323.
(3) النحيزه: الطبيعة.
(4) كشف الغمة ج2 ص256.
(5) بحار الأنوار ج48 ص174 رقم 16.