مناقب الإمام الهادي
قال ابن الصبّاغ المالكي: «وأما مناقبه، فقال الشيخ كمال الدين ابن طلحة: فمنها ما حلّ في الآذان محل جلاها باتصافها، واكتناف اللئالي اليتيمة بأصدافها، وشهد لأبي الحسن علي الرابع أن نفسه موصوفة بنفايس أوصافها، وأنه نازل في الدرجة النبوية في دار أشرافها، وشرفات أغرافها.
فمن ذلك: أن أبا الحسن كان قد خرج يوماً من سرّ من رأى الى قرية له لمهم عرض له فجاء رجل من بعض الأعراب يطلبه في داره فلم يجده، وقيل له: انه ذهب الى الموضع الفلاني فقصده الى موضعه فلما وصل اليه قال له: ما حاجتك؟ فقال له: أنا رجل من أعراب الكوفة المستمسكين بولاء جدك أميرالمؤمنين علي ابن أبي طالب عليه السّلام وقد ركبتني ديون فادحة اثقل ظهري حملها، ولم ار من أقصده لقضائها سواك، فقال له أبو الحسن: كم دينك؟ فقال: نحو العشرة آلاف درهم، فقال: طب نفساً وقرّ عيناً يقضى دينك ان شاء الله تعالى، ثم أنزله فلما أصبح قال له: يا أخا العرب أريد منك حاجة لا تعصني فيها ولا تخالفني، والله الله فيما آمرك به وحاجتك تقضى ان شاء الله تعالى، فقال الأعرابي، لا أخالفك في شيء مما تأمرني به، فأخذ أبو الحسن ورقة وكتب فيها بخطّه ديناً عليه للأعرابي بالمذكور، وقال: خذ هذا الخطّ معك فإذا حضرت سر من رأى، فتراني أجلس مجلساً عاماً، فإذا حضر الناس واحتفل المجلس فتعال اليّ بالخط وطالبني وأغلظ عليّ في القول ولا عليك، والله الله أن تخالفني في شيء مما اُوصيك به.
فلما وصل أبو الحسن الى سر من رأى جلس مجلساً عاماً وحضر عنده جماعة من وجوه الناس وأصحاب الخليفة والمتوكل واعيان البلد وغيرهم، فجاء ذلك الأعرابي وأخرج الخط وطالبه بالمبلغ المذكور واغلظ عليه في الكلام، فجعل أبو الحسن يعتذر اليه، ويطيّب نفسه بالقول، ويعده بالخلاص عن قريب، وكذلك الحاضرون، وطلب منه المهلة ثلاثة أيام، فلما انفك المجلس نقل ذلك الكلام الى الخليفة المتوكل فأمر لأبي الحسن على الفور بثلاثين ألف درهم. فلما حملت اليه تركها الى أن جاء الأعرابي، فقال له: خذ هذا المال فاقض منه دينك، واستعن بالباقي على وقتك، والقيام على عائلتك، فقال الأعرابي: يا ابن رسول الله، والله ان في العشرة آلاف بلوغ مطلبي ونهاية اربي وكفاية لي فقال أبو الحسن: والله لتأخذن ذلك جميعه، وهو رزقك الذي ساقه الله اليك ولو كان أكثر من ذلك ما نقصناه، فأخذ الأعرابي الثلاثين ألف درهم وانصرف وهو يقول: الله أعلم حيث يجعل رسالته»(1).
قال كمال الدين محمّد بن طلحة: «فأخذ المال وانصرف، وهذه منقبةٌ سمعها حكم بمكارم الأخلاق، وقضى له بالمنقبة المحكومة بالإنفاق»(2).
ولاية أهل البيت تنفع في الدارين:
روى المجلسي بإسناده عن هبة الله بن أبي منصور الموصلي أنه كان بديار ربيعة كاتب نصراني، وكان من أهل كفر توثا(3) يسمّى يوسف بن يعقوب وكان بينه وبين والدي صداقة، قال: فوافى فنزل عند والدي. فقال له: ما شأنك قدمت في هذا الوقت؟ قال: دعيت الى حضرة المتوكل ولا أدري ما يراد مني الاّ اني اشتريت نفسي من الله بمائة دينار، وقد حملتها لعلي بن محمّد بن الرضا عليه السّلام معي، فقال له والدي: قد وفّقت في هذا.
قال: وخرج الى حضرة المتوكل وانصرف الينا بعد أيام قلائل فرحاً مستبشراً فقال له والدي: حدّثني حديثك، قال: صرت الى سرّ من رأى وما دخلتها قطّ، فنزلت في دار وقلت أحبّ أن أُوصل المائة الى ابن الرضا قبل مصيري الى باب المتوكّل وقبل أن يعرف أحد قدومي قال: فعرفت انّ المتوكل قد منعه من الركوب وأنه ملازم لداره فقلت: كيف أصنع؟ رجل نصراني يسأل عن دار ابن الرضا لا آمن أن يبدر بي فيكون ذلك زيادة فيما أحاذره.
قال: ففكّرت ساعة في ذلك، فوقع في قلبي أن أركب حماري وأخرج في البلد ولا أمنعه من حيث يذهب لعلّي أقف على معرفة داره من غير أن أسأل أحداً قال: فجعلت الدنانير في كاغدة وجعلتها في كمّي وركبت، فكان الحمار يتخرّق الشوارع والأسواق يمرّ حيث يشاء الى أن صرت الى باب دار، فوقف الحمار فجهدت أن يزول فلم يزل، فقلت للغلام: سل لمن هذه الدار؟ فقيل: هذه دار ابن الرضا! فقلت: الله أكبر، دلالة والله مقنعة.
قال: وإذا خادم أسود قد خرج فقال: أنت يوسف بن يعقوب؟ قلت: نعم قال: أنزل فنزلت، فاقعدني في الدهليز فدخل فقلت في نفسي: هذه دلالة اُخرى، من أين عرف هذا الغلام اسمي، وليس في هذا البلد من يعرفني ولا دخلته قط.
قال: فخرج الخادم فقال: مائة دينار التي في كمّك في الكاغذ هاتها! فاولته اياها قلت: وهذه ثالثة. ثم رجع اليّ وقال: ادخل فدخلت اليه وهو في مجلسه وحده فقال: يا يوسف ما آن لك؟ فقلت: يا مولاي قد بان لي من البرهان ما فيه كفاية لمن اكتفى، فقال: هيهات انك لا تسلم ولكن سيسلم ولدك فلان، وهو من شيعتنا، يا يوسف ان اقواماً يزعمون أن ولايتنا لا تنفع أمثالكم، كذبوا والله انها لتنفع أمثالك، امض فيما وافيت له فانك سترى ما تحب قال: فمضيت الى باب المتوكل فنلت كل ما أردت فانصرفت.
قال هبة الله: فلقيت ابنه بعد هذا ـ يعني بعد موت والده ـ والله وهو مسلم حسن التشيع، فأخبرني ان أباه مات على النصرانية، وانه أسلم بعد موت أبيه، وكان يقول: أنا بشارة مولاي»(4).
(1) الفصول المهة ص278.
(2) مطالب السؤول ص242. وقال الشبلنجي: «نقلها غير واحد» نور الأبصار ص192.
(3) قرية كبيرة من أعمال الجزيرة.
(4) بحار الأنوار ج50 ص144 رقم 28 و 29.