مناقب الإمام العسكري
قال ابن الصباغ المالكي: «مناقب سيدنا أبي محمّد الحسن العسكري دالّة على أنه السرّي ابن السري، فلا يشك في إمامته أحدٌ ولا يمتري، واعلم انه لو بيعت مكرمة فسواه بايعها وهو المشتري، واحد زمانه من غير مدافع ونسيج وحده من غير منازع، وسيد أهل عصره وأمام أهل دهره، أقواله سديدة وأفعاله حميدة، وإذا كانت أفاضل زمانه قصيدة فهو في بيت القصيدة، وان انتظموا عقداً كان مكان الواسطة الفريدة، فارس العلوم الذي لا يجارى، ومبيّن غوامضها فلا يحاول ولا يمارى، كاشف الحقائق بنظره الصائب، مظهر الدقائق بفكره الثاقب، المحدث في سرّه بالأمور الخفيات، الكريم الأصل والنفس والذات، تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جنانه بمحمّد صلّى الله عليه وآله، أمين»(1).
قال الشبلنجي: «حدثّ أبو هاشم داود بن قاسم الجعفري، قال: كنت في الحبس الذي في الجوشق أنا والحسن بن محمّد، ومحمّد بن إبراهيم العمري، وفلان وفلان خمسة أو ستة، اذ دخل علينا أبو محمّد الحسن بن علي العسكري واخوه جعفر فحففنا بأبي محمّد وكان المتولّي للحبس صالح بن يوسف الحاجب، وكان معنا في الحبس رجلٌ أعجمي فالتفت الينا أبو محمّد وقال لنا سرّاً: لو لا ان هذا الرجل فيكم لأخبرتكم متى يفرج الله عنكم، وهذا الرجل قد كتب فيكم قصة الى الخليفة يخبر فيها بما تقولون فيه وهي معه في ثيابه يريد الحيلة في إيصالها الى الخليفة من حيث لا تعلمون، فاحذروا شرّه، قال أبو هاشم: فما تمالكنا أن تحاملنا جميعاً على الرجل ففتشناه فوجدنا القصة مدسوسة معه في ثيابه، وهو يذكرنا فيها بكل سوء، فأخذناها منه وحذرناه.
وكان الحسن يصوم في السجن فإذا أفطر أكلنا معه من طعامه، قال أبو هاشم: فكنت أصوم معه، فلما كان ذات يوم ضعفت من الصوم، فأمرت غلامي فجاء لي بكعك، فذهبت الى مكان خال في الحبس فأكلت وشربت، ثم عدت الى مجلسي مع الجماعة، ولم يشعر بي أحدٌ فلما رآني تبسم وقال: أفطرت، فخجلت فقال: لا عليك يا أبا هاشم إذا رأيت انك قد ضعفت وأردت القوّة فكل اللحم فان الكعك لا قوة فيه، وقال: عزمت عليك أن تفطر ثلاثاً، فان البنية إذا أنهكتها لا تتقوّى الاّ بعد ثلاث.
قال أبو هاشم: ثم لم تطل مدة أبي محمّد الحسن بن علي في الحبس بسبب أن قحط الناس بسرّ من رأى قحطاً شديداً، فامر الخليفة المعتمد على الله ابن المتوكل بخروج الناس الى الاستسقاء، فخرجوا ثلاثة أيام يستسقون، فلم يسقوا، فخرج الجاثليق في اليوم الرابع الى الصحراء وخرج معه النصارى والرهبان، وكان فيهم راهب كلّما مدّيده الى السماء هطلت بالمطر، ثم خرجوا في اليوم الثاني وفعلوا كفعلهم أول يوم، فهطلت السماء بالمطر، فعجب الناس من ذلك، وداخل بعضهم الشك وصبا بعضم الى دين النصرانية، فشقّ ذلك على الخليفة، فانفذ الى صالح بن يوسف أن أخرج أبا محمّد الحسن من الحبس وائتني به، فلما حضر أبو محمّد الحسن عند الخليفة. قال له: أدرك أمة محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما لحقهم من هذه النازلة العظيمة، فقال أبو محمّد: دعهم يخرجون غداً اليوم الثالث، فقال له: قد استغنى الناس عن المطر واستكفوا فما فائدة خروجهم؟ قال: لأزيل الشك عن الناس وما وقعوا فيه، فأمر الخليفة الجاثليق والرهبان أن يخرجوا أيضاً في اليوم الثالث على جاري عادتهم وان يخرج الناس. فخرج النصارى وخرج معهم أبو محمّد الحسن ومعه خلق من المسلمين، فوقف النصارى على جاري عادتهم يستسقون، وخرج راهب معهم ومدّ يده الى السماء ورفعت النصارى والرهبان أيديهم ايضاً كعادتهم، فغيمت السماء في الوقت ونزل المطر فأمر أبو محمّد الحسن بالقبض على يد الراهب وأخذ ما فيها، فإذا بين أصابعه عظم آدمي، فأخذه أبو محمّد الحسن ولفّه في خرقة، وقال لهم: استسقوا فانقشع الغيم وطلعت الشمس فتعجّب الناس من ذلك.
وقال الخليفة: ما هذا يا أبا محمّد؟ فقال: هذا عظم نبي من الأنبياء ظفر به هؤلاء من قبور الأنبياء، وما كشف عن عظم نبي من الأنبياء تحت السماء الاّ هطلت بالمطر، فاستحسنوا ذلك وامتحنوه فوجدوه كما قال، فرجع أبو محمّد الى داره بسر من رأى وقد أزال عن الناس هذه الشبهة، وسرّ الخليفة والمسلمون بذلك. وكلّم أبو محمّد الحسن الخليفة في إخراج أصحابه الذين كانوا معه في السجن ، فأخرجهم واطلقهم من أجله، وأقام أبو محمّد بمنزله معظماً مكرماً، وصلات الخليفة والعامة تصل اليه في كل وقت. نقله غير واحد»(2).
قال محمّد بن علي بن إبراهيم بن موسى بن جعفر عليه السّلام: «ضاق بنا الأمر فقال لي أبي: امض بنا حتى نصير الى هذا الرجل ـ يعني أبا محمّد ـ فانه قد وصف عنه سماحةٌ فقلت: تعرفه؟ فقال: ما أعرفه وما رأيته قط، قال: فقصدناه فقال لي أبي وهو في طريقه: ما أحوجنا الى أن يأمر لنا بخمسمائة درهم، مائتا درهم للكسوة، ومائتا درهم للدين، ومائة للنفقة، فقلت في نفسي: ليته أمر لي بثلاثمائة درهم مائة اشتري بها حماراً ومائة للنفقة ومائة للكسوة وأخرج الى الجبل، قال: فلما وافينا الباب خرج الينا غلامه فقال: يدخل علي بن إبراهيم ومحمّد ابنه، فلمّا دخلنا عليه وسلمنا قال لأبي: يا علي: ما خلّفك عنا الى هذا الوقت؟ فقال: يا سيدي استحييت أن ألقاك على هذه الحال، فلما خرجنا من عنده جاءنا غلامه فناول أبي صرّة فقال: هذه خمسمائة درهم مائتان للكسوة، ومائتان للدين، ومائة للنفقة. وأعطاني صرّة فقال: هذه ثلاثمائة درهم اجعل مائةً في ثمن حمار ومائةً للنفقة ولا تخرج الى الجبل وصر الى سوراء، فصار الى سوراء وتزوج بامرأة فدخله اليوم ألف دينار، ومع هذا يقول بالوقف، فقال: محمّد بن إبراهيم: فقلت له: ويحك أتريد أمراً ابين من هذا؟ قال: فقال: هذا أمرٌ قد جرينا عليه».
قال أبو هاشم الجعفري: «شكوت الى أبي محمّد ضيق الحبس وكتل القيد فكتب اليّ: أنت تصلي اليوم الظهر في منزلك فأخرجت في وقت الظهر فصليت في منزلي كما قال عليه السّلام. وكنت مضيّقاً فأردت أن أطلب منه دنانير في الكتاب فاستحييت فلما صرت الى منزلي وجّه اليّ بمائة دينار وكتب اليّ: إذا كانت لك حاجة فلا تستحيي ولا تحتشم واطلبها فانك ترى ما تحب ان شاء الله»(3).
قال اسماعيل بن محمّد بن علي بن اسماعيل بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب: «قعدت لأبي محمّد عليه السّلام على ظهر الطريق فلما مرّبي شكوت اليه الحاجة وحلفت له أنه ليس عندي درهم فما فوقها ولا غداء ولا عشاء، قال: فقال: تحلف بالله كاذباً وقد دفنت مائتي دينار وليس قولي هذا دفعاً لك عن العطيّة، أعطه يا غلام ما معك فأعطاني غلامه مائة دينار، ثم اقبل عليّ فقال لي: انك تحرمها أحوج ما تكون اليها يعني الدنانير التي دفنت، وصدق عليه السّلام وكان كما قال دفنت مائتي دينار وقلت: يكون ظهراً وكهفاً لنا فاضطررت ضرورةً شديدة الى شيء أنفقه وانغلقت عليَّ أبواب الرزق فنبشت عنها فإذا ابن لي قد عرف موضعها فأخذها وهرب فما قدرت منها على شيء»(4).
(1) الفصول المهمة ص290.
(2) نور الأبصار ص195، ورواه ابن الصبّاغ المالكي في الفصول المهمّة ص286.
(3) أصول الكافي ج1 ص424 وص426 رقم3 و10.
(4) المصدر ج1 ص426 رقم14.