مناقب الإمام الصادق
قال الشبلنجي: «مناقبه كثيرة تكاد تفوت عدّ الحاسب ويحار في أنواعها فهم اليقظ الكاتب»(1).
قال محمّد بن طلحة: «مناقبه وصفاته تكاد تفوت عدّ الحاصر ويحار في أنواعها فهم اليقظ الباصر، حتى أن من كثرة علومه المفاضة على قلبه من سجال التقوى صارت الأحكام التي لا تدرك عللها والعلوم التي تقصر الأفهام عن الاحاطة بحكمها، تضاف اليه وتروى عنه»(2).
قال ابن الصباغ: «مناقب جعفر الصادق عليه السّلام فاضلة، وصفاته في الشرف كاملة، وشرفه على جبهات الأيام سائلة، وأندية المجد والعز بمفاخرة ومآثره آهلة»(3).
حلم الإمام الصادق:
بعث سلام الله عليه غلاماً له في حاجة فأبطأ فخرج في أثره فوجده نائماً فجلس عند رأسه يروّحه حتى انتبه، فلما انتبه قال: يا فلان والله ما ذاك لك، تنام الليل والنهار، لك الليل ولنا منك النهار»(4).
نام رجل من الحاج في المدينة فتوهم أن هميانه سرق فخرج فرأى جعفر الصادق عليه السّلام مصلياً ولم يعرفه فتعلق به وقال له: أنت أخذت همياني قال: ما كان فيه؟ قال: ألف دينار، فحمله الى داره ووزن له ألف دينار، وعاد إلى منزله ووجد هميانه فعاد الى جعفر معتذراً بالمال فأبى قبوله وقال: شيء خرج من يدي لا يعود اليّ، قال: فسأل الرجل عنه فقيل: هذا جعفر الصادق، قال: لا جرم هذا فعال مثله»(5).
دخل سفيان الثوري على الصادق عليه السّلام فرآه متغير اللون فسأله عن ذلك فقال: كنت نهيت أن يصعدوا فوق البيت فدخلت فإذا جارية من جواري ممن تربي بعض ولدي قد صعدت في سلم والصبي معها فلما بصرت بي ارتعدت وتحيرت وسقط الصبي الى الأرض فمات، فما تغير لوني لموت الصبي وانما تغير لوني لما ادخلت عليها من الرعب، وكان عليه السّلام قال لها: أنت حرة لوجه الله لا بأس عليك(6).
روى عبد الله بن الفضل بن الربيع عن أبيه أنه قال: لما حج المنصور سنة سبع واربعين ومائة قدم المدينة فقال للربيع: ابعث الى جعفر بن محمّد من يأتينا به متعباً قتلني الله ان لم أقتله، فتغافل الربيع عنه وتناساه، فأعاد عليه في اليوم الثاني وأغلظ في القول، فأرسل اليه الربيع فلما حضر قال له الربيع: يا أبا عبد الله اذكر الله تعالى فانه قد أرسل لك من لا يدفع شره الاّ الله واني أتخوّف عليك. فقال جعفر: لا حول ولا قوة الاّ بالله العلي العظيم.
ثم ان الربيع دخل به على المنصور فلما رآه المنصور اغلظ له في القول وقال: يا عدو الله اتخذك أهل العراق إماماً يجبون اليك زكاة أموالهم وتلحد في سلطاني وتتبع لي الغوائل، قتلني الله ان لم أقتلك، فقال جعفر: يا أميرالمؤمنين ان سليمان أعطي فشكر وان أيوب ابتلي فصبر وان يوسف ظلم فغفر، وهؤلاء أنبياء الله واليهم يرجع نسبك ولك فيهم أسوة حسنة.
فقال المنصور: أجل يا أبا عبد الله ارتفع الى هنا عندي، ثم قال يا أبا عبد الله ان فلاناً أخبرني عنك بما قلت لك، فقال أحضره يا أمير المؤمنين ليوافقني على ذلك، فأحضر الرجل الذي سعى به الى المنصور فقال: حقاً ما حكيت لي عن جعفر؟ استحلفه. فبادر الرجل وقال: والله العظيم الذي لا اله الاّ هو عالم الغيب والشهادة الواحد الأحد، وأخذ يعدد في صفات الله تعالى. فقال جعفر: يا أمير المؤمنين يحلف بما أستحلفه، فقال: حلّفه بما تختار، فقال جعفر: قل برئت من حول الله وقوّته والتجأت الى حولي وقوّتي، لقد فعل جعفر كذا وكذا، فامتنع الرجل فنظر اليه المنصور نظرة منكرة فحلف بها، فما كان بأسرع من أن ضرب برجله الأرض وخرّ ميتاً مكانه. فقال المنصور: جروا برجله وأخرجوه.
ثم قال: لا عليك يا أبا عبد الله أنت البريء الساحة، والسليم الناحية، المأمون الغائلة، علي بالطيب فأتي بالغالية فجعل يغلب بها لحيته الى أن تركها تقطر وقال: في حفظ الله وكلائته. والحقه يا ربيع بجوائز حسنة وكسوة سنيّة.
قال الربيع: فألحقته بذلك، ثم قال له يا أبا عبد الله رأيتك تحرك شفتيك وكلما حركتهما سكن غضب المنصور، بأي شيء كنت تحركهما؟ قال: بدعاء جدي الحسين. قلت: وما هو يا سيدي؟ قال: اللهم يا عدتي عند شدتي، ويا غوثي عند كربتي، احرسني بعينك التي لا تنام واكنفني بركنك الذي لا يرام، وارحمني بقدرتك علي فلا أهلك وانك رجائي. اللهم انك أكبر وأجل وأقدر مما أخاف وأحذر، اللهم بك أدرأ في نحره وأستعيذ من شره انك على كل شيء قدير.
قال الربيع: فما نزل بي شدة ودعوت به الاّ أفرج الله عني. قال الربيع: وقلت له: منعت الساعي بك الى المنصور من أن يحلف بيمينه وأحلفته بيمينك، فما كان أن أخذ لوقته، وما السرّ فيه؟ قال: لأن في يمينه توحيد الله وتمجيده وتنزيهه فقلت: يحلم عليه ويؤخر عنه العقوبة، وأحببت تعجيلها اليه فاستحلفته بما سمعت فأخذه الله لوقته»(7).
وقال عليه السّلام: «لما دفعت الى أبي جعفر المنصور انتهرني وكلمني بكلام غليظ، ثم قال لي: يا جعفر قد علمت بفعل محمّد بن عبد الله الذي تسمونه النفس الزكية وما نزل به، وانما انتظر الآن أن يتحرك منكم أحد فألحق الكبير بالصغير، قال: فقلت: يا أميرالمؤمنين حدثني محمّد بن علي عن أبيه علي بن الحسين عن الحسين بن علي عن علي بن أبي طالب عليه السّلام ان النبي صلّى الله عليه وآله وقال: ان الرجل ليقطع رحمه وقد بقي من عمره ثلاث وثلاثون سنة، فيبترها الله تعالى الى ثلاث سنين، قال: فقال لي: والله لقد سمعت هذا من أبيك؟ قلت: نعم حتى رددها عليّ ثلاثاً ثم قال: انصرف»(8).
صلته للرحم:
روى ابن شهر آشوب: «لما حضر الصادق عليه السّلام الوفاة قال: أعطوا الحسن بن علي ـ وهو الأفطس ـ سبعين ديناراً، قيل له: أتعطي رجلا حمل عليك بالشفرة؟ فقال: ويحك ما تقرأ القرآن، (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ)(9)(10).
قال أبو جعفر الخثعمي: «أعطاني الصادق صرةً فقال لي: ادفعها الى رجل من بني هاشم ولا تعلمه أني أعطيتك شيئاً قال: فأتيته، قال: جزاه الله خيراً ما يزال كل حين يبعث بها فنعيش به الى قابل ولكني لا يصلني جعفر بدرهم في كثرة ماله»(11).
إكرامه الضيف:
قال أبو الربيع: «دعا أبو عبد الله بطعام فأتي بهريسة فقال لنا: ادنوا فكلوا، قال: فأقبل القوم يقصرون فقال عليه السّلام: كلوا فانما يستبين موّدة الرجل لأخيه في أكله ]عنده[ قال: فأقبلنا نغصّ أنفسنا كما تغصّ الابل»(12).
قال ابن أبي يعفور قال: «رأيت عند أبي عبد الله عليه السّلام ضيفاً فقام يوماً في بعض الحوائج فنهاه عن ذلك وقاه بنفسه الى تلك الحاجة وقال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وآله عن أن يستخدم الضيف»(13).
قال عجلان: «تعشيت مع أبي عبد الله عليه السّلام بعد عتمة وكان يتعشى بعد عتمة فأتي بخلّ وزيت ولحم بارد فجعل ينتف اللحم فيطعمنيه ويأكل هو الخل والزيت ويدع اللحم فقال: ان هذا طعامنا وطعام الأنبياء»(14).
طلبه للمعيشة:
قال أبو عبد الله: «كان أميرالمؤمنين صلوات الله عليه يضرب بالمر(15) ويستخرج الأرضين، وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله يمصّ النوى بفيه ويغرسه فيطلع من ساعته وان أميرالمؤمنين أعتق ألف مملوك ممن ماله وكدّ يده»(16).
وقال سلام الله عليه: «ان أمير المؤمنين عليه السّلام كان ليخرج ومعه أحمال النوى فيقال له: يا أبا الحسن ما هذا معك؟ فيقول: نخل ان شاء الله، فيغرسه فلم يغادر منه واحدة»(17).
قال عبد الأعلى مولى آل سام: «استقبلت أبا عبد الله عليه السّلام في بعض طرق المدينة في يوم صائف شديد الحر فقلت: جعلت فداك حالك عند الله عزّوجل وقرابتك من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنت تجهد لنفسك في مثل هذا اليوم؟ فقال: يا عبد الأعلى خرجت في طلب الرزق لأستغني عن مثلك»(18).
قال إسماعيل بن جابر: «أتيت أبا عبد الله وإذا هو في حائط له بيده مسحاة وهو يفتح بها الماء وعليه قميص شبه الكرابيس كأنه مخيط عليه من ضيقه»(19).
قال أبو عمرو الشيباني: «رأيت أبا عبد الله وبيده مسحاة وعليه ازار غليظ يعمل في حائط له والعرق يتصاب عن ظهره فقلت: جعلت فداك أعطني أكف، فقال لى: اني أحب أن يتأذى الرجل بحر الشمس في طلب المعيشة»(20).
قال أبو بصير: «سمعت أبا عبد الله يقول: اني لأعمل في بعض ضياعي حتى أعرق، وان لي من يكفيني ليعلم الله عزّوجل أني أطلب الرزق الحلال»(21).
قال سبط ابن الجوزي: «ومن مكارم أخلاقه ما ذكره الزمخشري في كتاب (ربيع الأبرار) عن الشقراني مولى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: خرج العطاء ايام المنصور ومالي شفيع فوقفت على الباب متحيراً، وإذا بجعفر بن محمّد قد أقبل فذكرت له حاجتي فدخل وخرج وإذا بعطائي في كمّه فناولني اياه، وقال: ان الحسن من كل أحد حسن وانه منك أحسن لمكانك منا، وان القبيح من كل أحد قبيح وانه منك أقبح لمكانك منا، وانما قال له جعفر ذلك لأن الشقراني كان يشرب الشراب، فمن مكارم أخلاق جعفر: انه رحب به وقضى حاجته مع علمه بحاله ووعظه على وجه التعريض، وهذا من أخلاق الأنبياء»(22).
(1) نور الأبصار ص170.
(2) مطالب السؤول ص219.
(3) الفصول المهمة ص230.
(4 ـ 5) المناقب لابن شهر آشوب ج4 ص274.
(7) نور الأبصار ص170، ورواها ابن حجر في الصواعق ص120، ومحمّد بن طلحة في مطالب السوول ص222 وسبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص ص344.
وقال ابن عبد ربّه: «قال الربيع: فلما حال الستر بيني وبينه أمسكت بثوبه، فقال: ما ارانا يا ربيع الاّ وقد حبسنا فقلت: لا عليك، هذه مني لا منه، فقال هذه ايسر، سل حاجتك، فقلت له: اني منذ ثلاث ادفع عنك، واداري عليك، ورأيتك إذ دخلت همست بشفتيك، ثم رأيت الأمر انجلى عنك وأنا خادم سلطان، ولا غنى لي عنه، فأحب منك أن تعلمنيه، قال: نعم، قلت: اللهم احرسني بعينك التي لا تنام، واكنفني بحفظك الذي لا يرام، ولا أهلك وأنت رجائي، فكم من نعمة أنعمتها علي قل لك عندها شكري فلم تحرمني، وكم من بلية ابتليت بها قل عندها صبري فلم تخذلني، اللم بك ادرأ في نحره واستعيذ بخيرك من شره، فانك على كل شيء قدير وصلى الله على سيدنا محمّد وآل وسلم». (العقد الفريد ج2 ص160).
(8) كشف الغمة ج2 ص165.
(9) سورة الرعد: 21.
(10 و 11) المناقب لابن شهر آشوب ج4 ص273.
(12) الفروع من الكافي ج6 ص279 رقم 6.
(13 و 14) الفروع من الكافي ص283 رقم 1، وص 328 رقم 4.
(15) المر بالفتح: كالمسحاة.
(16) المصدر ج5 ص74 رقم 2.
(17 و 18) المصدر ص75 رقم 9 وص74 رقم3.
(19 و 20) الفروع ص76 رقم 11 ورقم 13 وص77 رقم15.
(21) الفروع من الكافي ج5 ص77 رقم 15.
(22) تذكرة الخواص ص345.