علم الإمام الهادي
روى الخطيب باسناده عن محمّد بن يحيى المعاذي، قال: «قال يحيى بن أكثم في مجلس الواثق ـ والفقهاء بحضرته ـ من حلق رأس آدم حين حجّ؟ فتعايى القوم عن الجواب، فقال الواثق: أنا أحضرلكم من ينبئكم بالخبر، فبعث الى علي بن محمّد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب فاحضر، فقال: يا أبا الحسن، من حلق رأس آدم؟ فقال: سألتك بالله يا أميرالمؤمنين الاّ أعفيتني، قال: أقسمت عليك لتقولن، قال: أما إذ ابيت فان أبي حدثني عن جدي عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أمر جبريل أن ينزل بياقوتة من الجنة، فهبط بها فمسح بها رأس آدم فتناثر الشعر منه، فحيث بلغ نورها صار حرماً»(1).
وروى بإسناده عن الحسين بن يحيى قال: «اعتلّ المتوكل في أول خلافته، فقال: لئن برئت لأتصدقّن بدنانير كثيرة، فلما برىء جمع الفقهاء، فسألهم عن ذلك فاختلفوا، فبعث الى علي بن محمّد بن علي بن موسى بن جعفر فسأله، فقال: يتصدق بثلاثة وثمانين ديناراً، فعجب قوم من ذلك وتعصّب قوم عليه وقالوا: تسأله يا أميرالمؤمنين من أين له هذا؟ فردّ الرسول اليه. فقال له: قل لأمير المؤمنين: في هذا الوفاء بالنذر، لأن الله تعالى قال: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَة) فروى أهلنا جميعاً ان المواطن في الوقائع والسرايا والغزوات كانت ثلاثة وثمانين موطناً، وان يوم حنين كان الرابع والثمانين، وكلّما زاد أميرالمؤمنين في فعل الخير كان أنفع له وأجراً عليه في الدنيا والآخرة»(2).
قال ابن شهر آشوب: «قال المتوكل لابن السكّيت: اسأل ابن الرضا مسألة عوصاء بحضرتي فسأله فقال: لم بعث الله موسى بالعصا، وبعث عيسى بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، وبعث محمّداً بالقرآن والسيف؟ فقال أبو الحسن عليه السّلام: بعث الله موسى بالعصا واليد البيضاء في زمان الغالب على أهله السحر، فأتاهم من ذلك ما قهر سحرهم ويهرهم وأثبت الحجة عليهم، وبعث عيسى بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله في زمان الغالب على أهله الطّب، فأتاهم من ابراء الأكمه والأبرص واحياء الموتى بإذن الله فقهرهم وبهرهم، وبعث محمّداً بالقرآن والسيف في زمان الغالب على أهله السيف والشعر، فأتاهم من القرآن الزاهر والسيف القاهر ما بهر به شعرهم وقهر سيفهم وأثبت الحجة عليهم.
فقال ابن السكّيت: فما الحجة الآن؟ قال: العقل يعرف به الكاذب على الله فيكذب.
فقال يحيى بن أكثم: ما لابن السكيت ومناظرته، وانما هو صاحب نحو وشعر ولغة، ورفع قرطاساً فيه مسائل. فأملى علي بن محمّد عليه السّلام على ابن السكّيت جوابها وأمره أن يكتب: سألت عن قول الله تعالى (قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَالْكِتَابِ)(3) فهو آصف بن برخيا، ولم يعجز سليمان عن معرفة ما عرفه اصف ولكنه أحب أن يعرف أمّته من الجن والانس انه الحجة من بعده وذلك من علم سليمان أودعه آصف بأمر الله ففهمه ذلك لئلا يختلف في امامته وولايته من بعده، ولتأكيد الحجة على الخلق.
وأما سجود يعقوب لولده فان السجود لم يكن ليوسف وانما كان ذلك من يعقوب وولده طاعة لله تعالى وتحيّة ليوسف، كما ان السجود من الملائكة لم يكن لآدم، فسجد يعقوب وولده ويوسف معهم شكراً لله تعالى باجتماع الشمل، ألم تر أنه يقول في شكره في ذلك الوقت (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ)(4) الآية. وأما قوله (فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ) فان المخاطب بذلك رسول الله، ولم يكن في شك مما أنزل الله اليه ولكن قالت الجهلة: كيف لم يبعث نبيّاً من الملائكة؟ ولم لم يفرق بينه وبين الناس في الاستغناء عن المأكل والمشرب والمشي في الأسواق، فأوحى الله الى نبيه: فاسأل الذين يقرأون الكتاب بمحضر من الجهلة هل بعث الله نبياً قبلك الاّ وهو يأكل الطعام والشراب ولك بهم أسوة يا محمّد، وانّما قال: (فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ)(5) ولم يكن، للنصفة كما قال: (فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَاوَأَبْنَاءكُمْ)(6) ولو قال: تعالوا نبتهل فنجعل لعنة الله عليكم لم يكونوا يجيبوا الى المباهلة، وقد علم الله أن نبيه مؤدّ عنه رسالته وما هو من الكاذبين، وكذلك عرف النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بأنه صادق في ما يقول ولكن أحبّ أن ينصف من نفسه.
وأما قوله: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الاَْرْضِ مِن شَجَرَة أَقْلاَمٌ)(7) الآية فهو كذلك لو أن أشجار الدنيا أقلام والبحر مداد يمدّه سبعة أبحر مداً حتى انفجرت الأرض عيوناً كما انفجرت في الطوفان ما نفدت كلمات الله وهي: عين الكبريت، وعين اليمن، وعين برهوت، وعين الطبرية وحمة ماسبدان تدعى لسان وحمة افريقية تدعى سيلان، وعين باحوران، ونحن الكلمات التي لا تدرك فضائلنا ولا تستقصى.
وأما الجنة ففيها من المأكل والمشرب والملاهي ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين وأباح الله ذلك لآدم، والشجرة التي نهى الله آدم عنها وزوجته أن يأكلا منها شجرة الحسد عهد الله اليهما أن لا ينظر الى من فضله الله عليهما والى خلائقه بعين الحسد فنسي ولم يجد له عزماً.
وأما قوله: (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً)(8) فان الله تعالى زوّج الذكران المطيعين، ومعاذ الله أن يكون الجليل العظيم عنى ما لبست على نفسك تطلب الرخص لارتكاب المحارم (وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً)(9) ان لم يتب.
فأما شهادة امرأة وحدها التي جازت فهي القابلة التي جازت شهادتها مع الرضا، فان لم يكن رضى فلا أقل من أمرأتين تقوم المرأتان بدل الرجل للضرورة، لأن الرجل لا يمكنه أن يقوم مقامها فان كانت وحدها قبل قولها مع يمينها.
فأما قول علي في الخنثى فهو كما قال: يرث من المبال وينظر اليه قوم عدول، يأخذ كل واحد منهم مرآة، وتقوم الخنثى خلفهم عريانة وينظرون الى المرآة فيرون الشيء ويحكمون عليه.
وأما الرجل الناظر الى الراعي وقد نزا على شاة، فان عرفها ذبحها وأحرقها وان لم يعرفها قسمها الإمام نصفين وساهم بينهما فان وقع السهم على أحد القسمين، فقد أقسم النصف الآخر، ثم يفرق الذي وقع عليهم السهم نصفين ويقرع بينهما فلا يزال كذلك حتى تبقى اثنتان فيقرع بينهما فأيّتهما وقع السهم عليها ذبحت، وأحرقت، وقد نجا سايرهما وسهم الإمام سهم الله لا يخيب.
وأما صلاة الفجر والجهر فيها بالقراءة، لأن النبي كان يغلس بها فقراءتها من الليل.
وأما قول أميرالمؤمنين عليه السّلام: بشّر قاتل ابن صفية بالنار، لقول رسول الله صلّى الله عليه وآله، وكان ممن خرج يوم النهروان، فلم يقتله أمير المؤمنين بالبصرة لأنه علم أنه يقتل في فتنة النهروان.
وأمّا قولك: ان علياً قاتل أهل صفين مقبلين ومدبرين واجهز على جريحهم وانه يوم الجمل لم يتبع مولّياً ولم يجهز على جريحهم وكل من ألقى سيفه وسلاحه آمنه، فان أهل الجمل قتل إمامهم ولم يكن لهم فئة يرجعون اليها وانما رجع القوم الى منازلهم غير متحاربين ولا محتالين ولا متجسسين ولا متبارزين، فقد رضوا بالكف عنهم، وكان الحكم فيه رفع السيف والكف عنهم إذ لم يطلبوا عليه أعواناً، وأهل صفين يرجعون الى فئة مستعدة وإمام منتصب يجمع لهم السلاح من الرماح والدروع والسيوف ، ويستعدّ لهم ويسني لهم العطاء ويهيّىء لهم الأموال ويعقب مريضهم، ويجبر كسيرهم، ويداوي جريحهم، ويحمل راجلهم، ويكسو حاسرهم ويردهم فيرجعون الى محاربتهم وقتالهم. فان الحكم في أهل البصرة الكف عنهم لما ألقوا أسلحتهم إذ لم تكن لهم فئة يرجعون اليها، والحكم في أهل صفّين ان يتّبع مدبرهم ويجهز على جريحهم فلا يساوى بين الفريقين في الحكم، ولو لا أميرالمؤمنين وحكمه في أهل صفين والجمل لما عرف الحكم في عصاة أهل التوحيد فمن أبى ذلك عرض على السيف.
وأما الرجل الذي أقر باللواط فانه أقر بذلك متبرعاً من نفسه، ولم تقم عليه بينة، ولا أخذه سلطان، وإذا كان الإمام الذي من الله أن يعاقب في الله فله أن يعفو في الله، أما سمعت الله يقول لسليمان (هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَاب)(10) فبدأ بالمن قبل المنع.
فلما قرأ ابن أكثم قال للمتوكل: ما نحب ان نسأل هذا الرجل عن شيء بعد مسائلي هذه، وانه لا يرد عليه شيء بعدها الاّ دونها، وفي ظهور علمه تقوية للرافضة»(11).
قال الإربلي: «قال فتح بن يزيد الجرجاني: ضمّني وأبا الحسن عليه السّلام الطريق حين منصرفي من مكة الى خراسان، وهو صائر الى العراق، فسمعته وهو يقول: من اتّقى الله يتقى ومن أطاع الله يطاع، قال: فتلطّفت في الوصول اليه فسلّمت عليه فردّ عليَّ السلام وأمرني بالجلوس، وأول ما ابتدأني به ان قال: يا فتح من أطاع الخالق لم يبال سخط المخلوق ومن أسخط الخالق فأيقن أن يحل به الخالق سخط المخلوق، وان الخالق لا يوصف الاّ بما وصف به نفسه وأنّى يوصف الخالق الذي تعجز الحواس ان تدركه ، والأوهام أن تناله، والخطرات أن تحدّه، والأبصار عن الإحاطة به، جلّ عمّا يصفه الواصفون، وتعالى عمّا ينعته الناعتون، نأى في قربه وقرب في نأيه، فهو في نأيه قريب، وفي قربه بعيد، كيّف الكيف فلا يقال: كيف؟ وأيّن الأين فلا يقال أين، اذ هو منقطع الكيفية والأينيّة، هو الواحد الأحد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، فجل جلاله وقد قرنه الجليل باسمه وشركه في عطائه، وأوجب لمن أطاعه جزاء طاعته إذ يقول (وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُوَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ)(12) وقال يحكى قول من ترك طاعته وهو يعذّبه بين أطباق نيرانها وسرابيل قطرانها: (يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ)(13).
أم كيف يوصف بكنهه من قرن الجليل طاعتهم بطاعة رسوله حيث قال: (أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ)(14) وقال: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ)(15) وقال: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا)(16) وقال: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)(17).
يا فتح، كما لا يوصف الجليل جل جلاله والرسول والخليل وولد البتول عليه السّلام، فكذلك لا يوصف المؤمن المسلم لأمرنا، فنبينا أفضل الأنبياء، وخليلنا أفضل الأخلاّء، ووصيه أكرم الأوصياء، اسمهما أفضل الأسماء، وكنيتهما أفضل الكنى، وأجلاها، لو لم يجالسنا الاّ كفو لم يجالسنا أحد، ولو لم يزوّجنا الاكفو لم يزوجنا أحد، وهما أشدّ الناس تواضعاً واعظمهم حلماً وأنداهم كفاً وأمنعهم كنفاً ورث عنهما أوصياؤهما علمهما، فاردد اليهم الأمر وسلّم اليهم، أماتك الله مماتهم واحياك حياتهم. فاذهب إذا شئت رحمك الله.
قال فتح: فخرجت فلما كان من الغد تلطفت في الوصول اليه فسلمت عليه فردّ علي السلام، فقلت: يا ابن رسول الله أتأذن لي في مسألة اختلج في صدري أمرها ليلتي؟ قال: سل وان شرحتها فلي وان أمسكتها فلي، فصحح نظرك، وتثبّت في مسألتك، واصغ الى جوابها سمعك، ولا تسأل مسألة تعنّت واعتن بما تعتني به، فان العالم والمتعلم شريكان في الرشد، مأموران بالنصيحة منهيّان عن الغش. وأما الذي اختلج في صدرك ليلتك، فان شاء العالم أنبأك، ان الله لم يظهر على غيبه أحداً الاّ من ارتضى من رسول، فكل ما كان عند الرسول كان عند العالم وكل ما اطّلع عليه الرسول فقد أطلع الرسول أوصياءه عليه، لئلا تخلو أرضه من حجة يكون معه علم يدل على صدق مقالته وجواز عدالته.
يا فتح، عسى الشيطان أراد اللبس عليك، فأوهمك في بعض ما أودعتك وشكك في بعض ما أنبأتك حتى أراد إزالتك عن طريق الله وصراطه المستقيم، فقلت متى أيقنت أنهم كذا فهم أرباب، معاذ الله انّهم مخلوقون مربوبون مطيعون لله داخرون راغبون. فإذا جاءك الشيطان من قبل ما جاءك فاقمعه بما أنبأتك به.
فقلت له: جعلت فداك فرّجت عني وكشفت ما لبّس الملعون علي بشرحك فقد كان أوقع في خلدي انكم أرباب، قال: فسجد أبو الحسن وهو يقول في سجوده: راغماً لك يا خالقي، داخراً خاضعاً، قال: فلم يزل كذلك حتى ذهب ليلي.
ثمّ قال: يا فتح كدت أن تهلك وتهلك، وما ضرّ عيسى إذا هلك من هلك، فاذهب إذا شئت رحمك الله.
قال: فخرجت وأنا فرح بما كشف الله عني من اللبس بأنهم هم، وحمدت الله على ما قدرت عليه، فلما كان في المنزل الآخر دخلت عليه وهو متّك وبين يديه حنطة مقلوة يعبث بها وقد كان أوقع الشيطان في خلدي انه لا ينبغي أن ياكلوا ويربوا، إذ كان ذلك آفة والإمام غير مؤف.
فقال: اجلس يا فتح فان لنا بالرسل أسوة، كانوا يأكلون ويشربون ويمشون في الأسواق، وكلّ جسم مغذوّ بهذا الاّ الخالق الرازق لأنه جسّم الاجسام ولم يجسّم ولم يجزّأ بتناه ولم يتزايد ولم يتناقص مبرّأ من ذاته ما ركّب في ذات من جسمه. الواحد الأحد، الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولو يكن له كفواً أحدٌ، منشىء الأشياء، مجسّم الأجسام وهو السميع العليم، اللطيف الخبير الرؤوف الرحيم تبارك وتعالى عما يقول الظالمون علوّاً كبيراً.
لو كان كما وصف لم يعرف الرب من المربوب ولا الخالق من المخلوق ولا المنشيء من المنشأ، ولكنه فرّق بينه وبين من جسمه وشيّأ الأشياء اذ كان لا يشبهه شيء يرى ولا يشبه شيئاً»(18).
علم الامام الهادي بالمغيبات:
روى ابن الصباغ المالكي بإسناده عن جبران الاسباطي قال: «قدمت على أبي الحسن علي بن محمّد بالمدينة الشريفة النبوية من العراق، فقال لي: ما خبر الواثق عندك؟ قلت: خلّفته في عافية وأنا من أقرب الناس عهداً به، وهذا مقدمي من عنده وتركته صحيحاً سويّاً، قال: ان الناس يقولون انه قد مات. فلما قال لي: ان الناس يقولون، علمت انه يعني نفسه، فسكتّ.
فقال لي: ما فعل ابن الزيات؟ قلت: الناس معه والأمر أمره، فقال: اما انه شؤم عليه، ثم قال: لابد أن تجري مقادير الله واحكامه.
يا جبران، مات الواثق، وقعد جعفر المتوكل، وقتل ابن الزيات، فقلت: متى جعلت فداك؟ فقال: بعد خروجك بستة أيام، فما كان الاّ أيام قلائل حتى وصل قصّاد المتوكل الى المدينة فكان كما قال»(19).
روى الصدوق باسناده عن الصقر بن أبي دلف، قال: «لما حمل المتوكل سيدنا أبا الحسن عليه السّلام جئت أسأل عن خبره، قال: فنظر اليَّ الزرافي وكان حاجباً للمتوكل فأومأ اليَّ أن ادخل عليه فدخلت اليه. فقال: يا صقر ما شأنك؟ فقلت: خير أيّها الاُستاذ، فقال: اقعد فأخذني ما تقدم وما تأخر وقلت: أخطأت في المجيء قال: فأوجىء(20) الناس عنه ثم قال: ما شأنك؟ وفيم جئت؟ فقلت: لخبر ما فقال: لعلك جئت لتسأل عن خبر مولاك؟ فقلت له: ومن مولاي؟ مولاي أميرالمؤمنين، فقال: اسكت، مولاك هو الحق فلا تحتشمني فانّي على مذهبي فقلت: الحمد لله، فقال: أتحب أن تراه؟ فقلت: نعم، فقال: اجلس حتى يخرج صاحب البريد من عنده قال: فجلست فلما خرج قال لغلام له: خذ بيد الصقر فأدخله الى الحجرة التي فيها العلوي المحبوس وخلّ بينه وبينه.
قال: فأدخلني الحجرة وأومأ الى بيت فدخلت قال: فإذا هو عليه السّلام جالس على صدر حصير وبحذاه قبر محفور، قال: فسلمت فرد ثم أمرني بالجلوس، ثم قال لى: يا صقر ما أتى بك؟ قلت: سيدي جئت أتعرّف خبرك.
قال: ثم نظرت الى القبر فبكيت فنظر اليَّ فقال: يا صقر لا عليك، لن يصلوا الينا بسوء، فقلت: الحمد لله، ثم قلت: يا سيّدي حديث روي عن النبي صلّى الله عليه وآله لا أعرف ما معناه ]فـ[ قال: وما هو؟ فقلت: قوله: «لا تعادوا الأيام فتعاديكم» ما معناه؟ فقال: نعم، الأيام نحن ما قامت السماوات والأرض، فالسبت: اسم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والأحد: أميرالمؤمنين، والاثنين: الحسن والحسين، والثلاثاء: علي بن الحسين ومحمّد بن علي وجعفر بن محمّد، والأربعاء: موسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمّد بن علي وأنا، والخميس: ابني الحسن، والجمعة: ابن ابني واليه تجتمع عصابة الحق وهو الذي يملأها قسطاً وعدلا كما ملئت ظلماً وجوراً، وهذا معنى الأيام فلا تعادوهم في الدنيا فيعادوكم في الآخرة، ثم قال: ودّع واخرج فلا آمن عليك»(21).
علم الإمام الهادي باللّغات:
قال أبو هاشم الجعفري: «كنت بالمدينة حتى مرّ بها بغا(22) أيام الواثق في طلب الأعراب، فقال أبو الحسن: اخرجوا بنا حتى ننظر الى تعبية هذا التركي فخرجنا فوقفنا فمرّت بنا تعبيته فمرّ بنا تركي فكلمه أبو الحسن بالتركية فنزل عن فرسه فقبّل حافر دابّته قال: فحلّفت التركي وقلت له: ما قال لك الرجل؟ قال: هذا نبىٌّ؟ قلت: ليس هذا بنبي، قال: دعاني باسم سمّيت به في صغري في بلاد الترك ما علمه أحد الى الساعة»(23).
قال علي بن مهزيار: «عن الطيّب الهادي عليه السّلام قال: دخلت عليه فابتدأني فكلمني بالفارسية»(24).
وقال: «أرسلت الى أبي الحسن عليه السّلام غلامي وكان سقلابياً(25) فرجع الغلام اليّ متعجباً فقلت: ما لك يا بني؟ قال: كيف لا أتعجب؟ ما زال يكلمني بالسقلابيّة كأنه واحد منا، فظننت أنه انما دار بينهم»(26).
قال أبو هاشم: «كنت عند أبي الحسن عليه السّلام وهو مجدّر، فقلت للمتطبب: (آب كرفت)، ثم التفت الي وتبسم وقال: تظن أن لا يحسن الفارسية غيرك؟ فقال له المتطبب: جعلت فداك تحسنها؟ فقال: أمّا فارسيّة هذا فنعم، قال لك: احتمل الجدري ماء»(27).
علمه بخواطر القلوب:
روى الاربلي باسناده عن محمّد بن شرف قال: «كنت مع أبي الحسن عليه السّلام أمشي بالمدينة فقال لي: ألست ابن شرف؟ قلت: بلى فأردت أن أسأله عن مسألة فابتدأني من غير أن أسأله فقال: نحن على قارعة الطريق وليس هذا موضعمسألة»(28).
قال ابن شهر آشوب: «قال علي بن مهزيار: وردت العسكر وأنا شاكّ في الإمامة، فرأيت السلطان قد خرج الى الصيد في يوم من الربيع الاّ انّه صائف والناس عليهم ثياب الصيف، وعلى أبي الحسن لباد وعلى فرسه تجفاف لبود، وقد عقد ذنب الفرس والناس يتعجّبون منه ويقولون: ألا ترون الى هذا المدني وما قد فعل بنفسه؟ فقلت في نفسي: لو كان هذا إماماً ما فعل هذا، فلما خرج الناس الى الصحراء لم يلبثوا أن ارتفعت سحابة عظيمة هطلت فلم يبق أحد الاّ ابتل حتّى غرق بالمطر وعاد عليه السّلام وهو سالم من جميعه. فقلت في نفسي: يوشك أن يكون هو الإمام، ثم قلت: أُريد أن أسأله عن الجنب إذا عرق في الثوب، فقلت في نفسي: ان كشف وجهه فهو الإمام، فلما قرب مني كشف وجهه ثم قال: ان كان عرق الجنب في الثوب وجنابته من حرام لا يجوز الصلاة فيه، وان كانت جنابته من حلال فلا بأس، فلم يبق في نفسي بعد ذلك شبهة»(29).
روى المجلسي بإسناده عن أبي هاشم الجعفري قال: «أصابتني ضيقة شديدة فصرت الى أبي الحسن علي بن محمّد عليه السّلام السلام فأذن لي فلمّا جلست قال: يا أبا هاشم: أيَّ نعم الله عزّوجل عليك تريد أن تؤدّي شكرها؟ قال أبو هاشم: فوجمت فلم أدر ما أقول له. فابتدأ عليه السّلام فقال: رزقك الايمان فحرّم بدنك على النار، ورزقك العافية فأعانتك على الطاعة، ورزقك القنوع فصانك عن التبذّل، يا أبا هاشم انما ابتدأتك بهذا لأني ظننت أنك تريد أن تشكولي من فعل بك هذا، وقد أمرت لك بمائة دينار فخذها»(30).
علم الإمام الهادي بالمنايا والبلايا:
روى الطبرسي قال: «قال أبو الحسين سعيد بن سهيل البصري ـ وكان يلقب بالملاّح ـ قال: وكان يقول بالوقف جعفر بن القاسم الهاشمي البصري وكنت معه بسرّ من رأى، إذ رآه أبو الحسن في بعض الطرق فقال له: الى كم هذه النومة؟ اما آن لك أن تنتبه منها؟ فقال لي جعفر: سمعت ما قال لي علي بن محمّد؟ قد والله وقع في قلبي شيء.
فلما كان بعد أيّام حدث لبعض أولاد الخليفة وليمة، فدعانا فيها ودعا أبا الحسن معنا فدخلنا، فلما رأوه أنصتوا إجلالا له، وجعل شاب في المجلس لا يوقره، وجعل يلفظ ويضحك. فأقبل عليه فقال له: يا هذا أتضحك ملء فيك وتذهل عن ذكر الله وأنت بعد ثلاثة أيام من أهل القبور؟ قال: فقلت: هذا دليل حتى ننظر ما يكون؟ قال: فأمسك الفتى وكفّ عما هو عليه وطعمنا وخرجنا. فلما كان بعد يوم اعتلّ الفتى ومات في اليوم الثالث من أول النهار ودفن في آخره»(31).
وقال سعيد أيضاً: «اجتمعنا في وليمة لبعض أهل سرّ من رأى وأبو الحسن معنا، فجعل رجل يعبث ويمزح ولا يرى له جلالة فأقبل على جعفر فقال: أما انه لا يأكل من هذا الطعام وسوف يرد عليه من خبر أهله ما ينغّص عليه عيشه، قال: فقدّمت المائدة قال جعفر: ليس بعد هذا خبر، قد بطل قوله، فوالله لقد غسل الرجل يده وأهوى الى الطعام، فإذا غلامه قد دخل من باب البيت يبكي وقال له: الحق امك فقد وقعت من فوق البيت وهي بالموت، قال جعفر: فقلت والله لا وقفت بعد هذا، وقطعت عليه»(32).
قال ابن شهرآشوب: «قال أبو محمّد الفحام عن المنصوري عن عمه عن أبيه قال: قال يوماً الامام علي بن محمّد: يا أبا موسى أخرجت الى سر من رأى كرهاً ولو اخرجت عنها اخرجت كرهاً قال قلت: ولم يا سيدي؟ فقال: لطيب هوائها وعذوبة مائها وقلة دائها، ثم قال: تخرب سر من رأى حتى يكون فيها خان وقفاً للمارة وعلامة خرابها تدارك العمارة في مشهدي من بعدي.
دخلنا كارهين لها فلما *** ألفناها خرجنا مكرهينا»(33)
قال الشبلنجي: «وفي تاريخ القرماني: سر من رأى هي سامراء وهي مدينة عظيمة كانت على شرقي دجلة بين تكريت وبغداد بناها المعتصم سنة احدى وعشرين ومائتين، وسكن بجنوده حتى صارت أعظم بلاد الله وهي اليوم خراب وبها أناس قلائل كالقرية»(34).
روى المجلسي بإسناده خبر زرافة وإخبار الامام عليه السلام عن مقتله بعد ثلاثة أيام(35).
(1) تاريخ بغداد ج12 ص56.
(2) تاريخ بغداد ج12 ص56. ورواهما سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص ص360ـ361.
(3) سورة النمل: 40.
(4) سورة يوسف: 101.
(5) سوره يونس: 94.
(6) سورة آل عمران: 61.
(7) سورة لقمان: 27.
(8) سورة الشورى: 50.
(9) سورة الفرقان: 68ـ69.
(10) سورة ص: 39.
(11) المناقب لابن شهر آشوب ج4 ص403.
(12) سورة التوبة: 74.
(13) سورة الأحزاب: 66.
(14) سورة النساء: 59.
(15) سورة النساء: 83.
(16) سورة النساء: 58.
(17) سورة الأنبياء: 7.
(18) كشف الغمة ج2 ص386.
(19) الفصول المهمّة ص279، ورواه الشبلنجي في نور الأبصار ص193.
(20) اوجئه: اي أبعده.
(21) معاني الأخبار باب معنى: لا تعادوا الأيام ص123.
(22) اسم رجل من قوّاد المتوكل.
(23) اعلام الورى ص359، ورواه ابن شهر آشوب في المناقب ج4 ص408 مع فرق.
(24) بصائر الدرجات ص333 رقم1.
(25) السقالبة: جيل حمر الألوان صهب الشعور، يتاخمون بلاد الخزر في أعالي جبال الروم (معجم البلدان ج3 ص416).
(26) بصائر الدرجات ص333 رقم3.
(27) بحار الأنوار ج50 ص136 رقم18.
(28) كشف الغمّة ج2 ص385.
(29) المناقب ج4 ص413.
(30) البحار ج50 ص129 رقم 7 ومن هذا الباب ما رواه في ج50 ص141 وقد تقدّم في كراماته عليه السلام عن كشف الغمة.
(31) اعلام الورى ص364.
(32) إعلام الورى ص314.
(33) المناقب ج4 ص417.
(34) نور الأبصار ص192.
(35) بحار الانوار ج50 ص147 وتقدم نصّه الكامل في فصل كرامات الامام عن مهج الدعوات.