علم الإمام الصادق و بلاغته
لم يكن علم الإمام الصادق ـ شأنه في ذلك شأن سائر الأئمة ـ كسبياً، وأخذاً من أفواه الرجال ومدارسهم، بل ورث العلم عن آبائه عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
وفي هذا يقول سلام الله عليه: «والله لقد أعطينا علم الأولين والآخرين»(1).
قال بكير بن أعين: «قبض أبو عبد الله عليه السّلام على ذراع نفسه وقال: يا بكير هذا والله جلد رسول الله، وهذه والله عروق رسول الله، وهذا والله لحمه، وهذا عظمه، واني لأعلم ما في السماوات، وأعلم ما في الأرض، وأعلم ما في الدنيا وأعلم ما في الآخرة، فرأى تغير جماعة، فقال: يا بكير اني لأعلم ذلك من كتاب الله تعالى إذ يقول: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْء)(2).
وكان يقول: ان حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث علي بن أبي طالب أميرالمؤمنين، وحديث علي أمير المؤمنين حديث رسول الله صلّى الله عليه وآله، وحديث رسول الله قول الله عزّوجل»(3).
والأخبار في هذا المعنى كثيرة وفيما أثبتناه كفاية، وإذا أردت مبلغ علمه فانظر الى كثرة من استفاد منه في فنون العلم والمعرفة، وروى عنه في أصول الدين والتفسير والأخلاق والأحكام، فقد بلغ من عرفوه من الرواة وأحصوهم أربعة آلاف أو يزيدون، ولماذا لم يرووا عن غيره مع وفرة العلماء وأئمة الحديث في عصره، بل في البلدان وفي المدينة المنورة؟ لأنه سلام الله عليه كان يخبر عن آبائه وعن جده رسول الله صلّى الله عليه وآله.
قال أبو الفتح الاربلي: «كثرة علومه المفاضة على قلبه من سجال التقوى، حتى صارت الأحكام التي لا تدرك عللها والعلوم التي تقصر الأفهام على الإحاطة بحكمها، تضاف اليه وتروى عنه»(4).
ونقتصر من بلاغته عليه السّلام على الحديث التالي:
قال بعض اصحابه «دخلت على جعفر، وموسى ولده بين يديه، وهو يوصيه بهذه الوصية، فكان مما حفظت منه أن قال: يا بني احفظ وصيتي، واحفظ مقالتي فانك ان حفظتها تعش سعيداً وتمت حميداً، يا بني انه من قنع بما قسم له استغنى، ومن مدّ عينه الى ما في يد غيره مات فقيراً، ومن لم يرض بما قسم الله له عزّوجل اتهم الله تعالى في قضائه، ومن استصغر زلة نفسه استعظم زلة غيره، ومن استعظم زلة نفسه استصغر زلة غيره، يا بني من كشف حجاب غيره انكشفت عورات نفسه، ومن سلّ سيف البغي قتل به، ومن حفر لأخيه بئراً سقط فيها، ومن داخل السفهاء حقر ومن خالط العلماء وقر، ومن دخل مداخل السوء اتهم، يا بني قل الحق لك وعليك، واياك والنميمة فانها تزرع الشحناء في قلوب الرجال. يا بني إذا طلبت الجود فعليك بمعادنه، فان للجود معادن وللمعادن أصولا، وللأصول فروعاً، وللفروع ثمراً، ولا يطيب ثمر الاّ بفرع، ولا فرع الاّ بأصل، ولا أصل الاّ معدن طيّب، يا بني إذا زرت فزر الأخيار ولا تزر الفجار، فانهم صخرة لا ينفجر ماؤها، وشجرة لا يخضر ورقها، وأرض لا يظهر عشبها. قال علي بن موسى عليه السّلام: فما ترك أبي هذه الوصية الى أن مات»(5).
(1) المناقب لابن شهراشوب ج4 ص250.
(2) سورة النحل: 89.
(3) الارشاد للشيخ المفيد ص257.
(4) كشف الغمة ج2 ص155.
(5) كشف الغمة ج2 ص157.