علم الإمام الجواد
بلغ سلام الله عليه في العلم والعقل والكمال والفضل والآداب والحكم ورفعة المنزلة ما لم يساوه أحد من أهل زمانه. وكيف لا، هو من الأئمة الذين جعلهم الله ولاة أمره وخزنة علمه. قال جده أبو جعفر الباقر عليه السّلام: «والله إنّا لخزّان الله في سمائه وأرضه لا على ذهب ولا على فضة الاّ على علمه»(1).
وهو من الراسخين في العلم الذين تحدّث عنهم أبو عبد الله الصادق عليه السّلام فقال: «نحن الراسخون في العلم ونحن نعلم تأويله»(2).
وهو من الذين لولاهم ما عبد الله ، وهم الذين دعوا العباد الى توحيده وطاعته، وفيهم يقول أبو الحسن موسى بن جعفر «قال أبو عبد الله ان الله عزّوجل خلقنا فأحسن خلقنا وصوّرنا فأحسن صورنا وجعلنا خزانه في سمائه وأرضه، ولنا نطقت الشجرة، وبعبادتنا عبد الله عزّوجل، ولولانا ما عبد الله»(3).
وهو من الذين جعلهم الله خلفاءه في أرضه حيث قال أبو الحسن الرضا: «الأئمة خلفاء الله عزّوجل في أرضه»(4).
قال الشيخ حسين بن عبد الوهاب ـ من علماء القرن الخامس ـ «لما قبض الرضا عليه السّلام كان سنّ أبي جعفر نحو سبع سنين، فاختلفت الكلمة من الناس ببغداد وفي الأمصار، واجتمع الريّان بن الصلت وصفوان بن يحيى، ومحمّد بن حكيم، وعبد الرحمان بن الحجاج ويونس بن عبد الرحمان وجماعة من وجوه الشيعة وثقاتهم في دار عبد الرحمان بن الحجاج في بركة زلول يبكون ويتوجعون من المصيبة، فقال لهم يونس بن عبد الرحمان: دعوا البكاء، من لهذا الأمر؟ وإلى من نقصد بالمسائل الى أن يكبر هذا؟ يعني أبا جعفر عليه السّلام.
فقام اليه الريّان بن الصلت، ووضع يده في حلقه، ولم يزل يلطمه، ويقول له:أنت تظهر الايمان لنا وتبطن الشك والشرك، ان كان أمره من الله جل وعلا فلو أنه كان ابن يوم واحد لكان بمنزلة الشيخ العالم وفوقه، وان لم يكن من عند الله فلو عمّر ألف سنة فهو واحدٌ من الناس، هذا مما ينبغي أن يفكّر فيه، فأقبلت العصابة عليه تعذله وتوبّخه. وكان وقت الموسم، فاجتمع من فقهاء بغداد والأمصار وعلمائهم ثمانون رجلا، فخرجوا الى الحج وقصدوا المدينة ليشاهدوا أبا جعفر، فلما وافوا أتوا دار جعفر الصادق عليه السّلام لأنها كانت فارغة ودخلوها وجلسوا على بساط كبير وخرج اليهم عبد الله بن موسى فجلس في صدر المجلس وقام مناد وقال: هذا ابن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فمن أراد السؤال فليسأله، فسئل عن أشياء أجاب عنها بغير الواجب فورد على الشيعة ما حيّرهم وغمّهم واضطربت الفقهاء وقاموا وهمّوا بالإنصراف وقالوا في أنفسهم: لو كان أبو جعفر عليه السّلام يكمل جواب المسائل لما كان من عبد الله ما كان ومن الجواب بغير الجواب. ففتح عليهم باب من صدر المجلس ودخل موفّق وقال: هذا أبو جعفر، فقاموا اليه بأجمعهم واستقبلوه وسلموا عليه.
فدخل وعليه قميصان وعمامة بذؤابتين وفي رجليه نعلان وجلس وأمسك الناس كلهم، فقام صاحب المسألة فسأله عن مسائله فأجاب عنها بالحق ففرحوا ودعوا له وأثنوا عليه وقالوا له: ان عمك عبد الله أفتى بكيت وكيت، فقال: لا اله الاّ الله، يا عمّ انه عظيم عند الله أن تقف غداً بين يديه فيقول لك: لم تفتي عبادي بما لم تعلم، وفي الأمة من هو أعلم منك؟…»(5).
قال ابن شهر آشوب: «لما مضى الرضا عليه السّلام جاء محمّد بن جمهور العمي، والحسن بن راشد، وعلي بن مدرك، وعلي بن مهزيار، وخلق كثير من سائر البلدان الى المدينة وسألوا عن الخلف بعد الرضا فقالوا بـ «صريّا» وهي قرية أسّسها موسى بن جعفر عليه السّلام على ثلاثة أميال من المدينة فجئنا ودخلنا القصر فإذا الناس فيه متكابسون فجلسنا معهم، إذ خرج علينا عبد الله بن موسى وهو شيخ فقال الناس: هذا صاحبنا، فقال الفقهاء: قد رؤينا عن أبي جعفر وأبي عبد الله أنه لا تجتمع الامامة في أخوين بعد الحسن والحسين وليس هذا صاحبنا، فجاء حتى جلس في صدر المجلس فقال رجل: ما تقول أعزّك الله في رجل اتى حماراً فقال: تقطع يده ويضرب الحدّ وينفى من الأرض سنة ثم قام اليه آخر، فقال: ما تقول أصلحك الله في رجل طلّق امرأته عدد نجوم السماء؟ قال: بانت منه بصدر الجوزاء والنسر الطائر والنسر الواقع، فتحيّرنا في جرأته على الخطأ، إذ خرج علينا أبو جعفر وهو ابن ثمان سنين، فقمنا اليه فسلّم على الناس وقام عبد الله بن موسى من مجلسه، فجلس بين يديه وجلس أبو جعفر في صدر المجلس ثم قال: سلوا رحمكم الله.
فقام اليه الرجل الأول وقال: ما تقول أصلحك الله في رجل أتى حمارة؟ قال: يضرب دون الحد ويقوم ثمنها ويحرم ظهرها ونتاجها وتخرج الى البريّة حتى تأتي عليها منيتها سبع أكلها ذئبٌ أكلها. ثم قال بعد كلام: يا هذا، ذلك الرجل ينبش عن ميتة فيسرق كفنها ويفجر بها يوجب عليه القطع بالسرقة والحدّ بالزنا والنفي إذا كان عزباً، فلو كان محصناً لوجب عليه القتل والرجم.
فقال الرجل الثاني: يا ابن رسول الله، ما تقول في رجل طلّق امرأته عدد نجوم السماء؟ قال: تقرأ القرآن؟ قال: نعم، قال: إقرأ سورة الطلاق الى قوله (وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ) يا هذا، لا طلاق الاّ بخمس: شهادة شاهدين عدلين، في طهر من غير جماع، بإرادة عزم، ثم قال بعد كلام: يا هذا هل ترى في القرآن عدد نجوم السماء؟ قال: لا»(6).
وفي رواية البحراني: «قام اليه صاحب المسألة الأولى فقال: يا ابن رسول الله ما تقول في من قال لامرأته أنت طالق بعدد نجوم السماء؟ فقال له: يا هذا اقرأ كتاب الله قال الله تبارك وتعالى (الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوف أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَان)(7) في الثالثة، قال: فان عمّك أفتاني بكيت وكيت فقال: يا عم، اتق الله ولا تفت وفي الأمة من هو أعلم منك.
فقام اليه صاحب المسألة الثانية فقال: يا ابن رسول الله رجل أتى بهيمة فقال: يعزّر ويحمى ظهر البهيمة وتخرج من البلد لا يبقى على الرجل عارها فقال: عمّك أفتاني بكيت وكيت، فالتفت وقال بأعلى صوته لا اله الاّ الله، يا عبدالله انه عظيم عند الله أن تقف غداً بين يدي الله فيقول الله لك: لم أفتيت عبادي بما لا تعلم وفي الأمة من هو أعلم منك، فقال عبد الله بن موسى: رأيت أخي الرضا وقد أجاب في هذه المسألة بهذا الجواب، فقال له أبو جعفر عليه السّلام: انما سئل الرضا عليه السّلام عن نبّاش نبش امرأة ففجر بها وأخذ ثيابها فأفتى بقطعه للسرقة، وجلده للزنا، ونفيه للمثلة»(8).
وروى الحسين بن عبد الوهاب عن عمر بن فرج الرخجي(9) «قال: قلت لأبي جعفر: ان شيعتك تدّعي انك تعلم كل ماء في دجلة ووزنه؟ وكنا على شاطىء دجلة فقال عليه السّلام لي: يقدر الله تعالى ان يفوّض علم ذلك الى بعوضة منخلقه أم لا؟ قلت: نعم يقدر. فقال: أنا أكرم على الله تعالى من بعوضة ومن أكثر خلقه»(10).
قال الحافظ البرسي: «روي عنه أنه جيء به الى مسجد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد موت أبيه الرضا عليه السّلام وهو طفل، فجاء الى المنبر ورقي منه درجة، ثم نطق فقال: أنا محمّد بن علي الرضا أنا الجواد، أنا العالم بأنساب الناس في الأصلاب، أنا أعلم بسرايركم فضواهركم وما أنتم صائرون اليه، علم منحنا به من قبل خلق الخلق أجمعين وبعد فناء السماوات والأرضين، ولو لا تظاهر أهل الباطل ودولة أهل الضلال ووثوب أهل الشكّ لقلت قولا تعجب منه الأولون والآخرون، ثم وضع يده الشريفة على فيه وقال: يا محمّد اصمت كما صمت آباؤك من قبل»(11).
روى الطبري الإمامي بإسناده عن أبي جعفر الشلمغاني، قال: «حجّ اسحاق بن اسماعيل في السنة التي خرجت الجماعة الى أبي جعفر، قال اسحاق: فأعددت له في رقعة عشر مسائل لأسأله عنها، وكان لي حمل فقلت إذا أجابني عن مسائلي سألته ان يدعو الله لي أن يجعله ذكراً، فلمّا سأله الناس قمت والرقعة معي لأسأله عن مسائلي فلمّا نظر اليّ قال: يا أبا يعقوب سمّه أحمد. فولد لي ذكر وسمّيته أحمد فعاش مدة ومات»(12).
قال الشيخ محمود الشيخاني: «وقع لبعض الخلفاء أنه لما مرض نذر على نفسه ان وهب الله له العافية ان يتصدق بمال كثير مبهماً، فعوفي، فأحضر الفقهاء واستفتاهم عن مقدار مال كثير، فكلٌّ قال شيئاً فقال محمّد الجواد: ان كنت نويت الدنانير فتصدق بثمانين ديناراً، أو الدراهم، فتصدق بثمانين درهماً، فقال الفقهاء: ما نعرف هذا في الكتاب ولا السنّة، فقال محمّد الجواد: بلى قال الله تعالى (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَة)(13) والنصر من أقسام العافية، فعدّوا وقايع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فإذا هي ثمانون»(14).
(1) أصول الكافي كتاب الحجّة ج1 148 الرق2.
(2) المصدر ص166 الرقم1.
(3) الكافي ج1 ص149 الرقم 6.
(4) المصدر، الرقم 1.
(5) عيون المعجزات ص108.
(6) المناقب ج4 ص382.
(7) سورة البقرة: 229.
(8) حلية الأبرار ج2 ص401.
(9) عمر بن فرج الرخجي: اشتهر بالنصب والبغض لعلي بن أبي طالب وأهل البيت عليهم السلام (مقاتل الطالبين).
(10) عيون المعجزات ص113.
(11) مشارق أنوار اليقين ص98.
(12) دلائل الامامة ص212.
(13) سورة التوبة: 25.
(14) الصراط السوي في مناقب آل النبي ص406.