علم الإمام الباقر
علمه عليه السّلام بحر لا ينفد، وجبل لا يرقى اليه الطير، طأطأ كل عالم لعلمه، وخضع له كل شريف.
قال عبد الله بن عطاء «ما رأيت العلماء عند أحد أصغر علماً منهم عند أبي جعفر، لقد رأيت الحكم(1) عنده كأنه متعلم»(2).
قال ابن أبي الحديد: «كان محمّد بن علي بن الحسين… سيد فقهاء الحجاز، ومنه ومن ابنه جعفر تعلم الناس الفقه، وهو الملقب بالباقر باقر العلم، لقبه به رسول الله صلّى الله عليه وآله»(3).
روى أبو نعيم عن عبدالله بن محمّد بن عمر بن علي قال: «كنت جالساً عند خالي محمّد بن علي، وعنده يحيى بن سعيد وربيعة الرأي اذ جاءه الحاجب فقال: هؤلاء قوم من أهل العراق، فدخل أبو اسحاق السبيعي وجابر الجعفي وعبد الله بن عطاء والحكم بن عيينة، فتحدثوا فأقبل محمّدٌ على جابر، قال: ما يروي فقهاء أهل العراق في قوله عزّوجل (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ)(4) ما البرهان؟ قال: رأى يعقوب عاضّاً على إبهامه، فقال: لا، حدثني أبي عن جدي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، أنه همَّ أن يحل التكة فقامت الى صنم مكلل بالدر والياقوت في ناحية البيت فسترته بثوب أبيض بينها وبينه فقال: أي شيء تصنعين؟ فقالت: أستحيي من الهي أن يراني على هذه الصورة، فقال يوسف: تستحين من صنم لا يأكل ولا يشرب ولا استحي أنا من الهي الذي هو قائم على كل نفس بما كسبت؟ ثم قال: والله لا تنالينها مني أبداً. فهو البرهان الذي رأى»(5).
قال الشبلنجي : «روى الزهري قال: حج هشام بن عبد الملك فدخل المسجد الحرام متوكئاً على سالم مولاه، ومحمّد بن علي في المسجد، فقال له سالم: يا أمير المؤمنين، هذا محمّد بن علي بن الحسين في المسجد المفتون به أهل العراق، فقال: اذهب اليه، وقل له: يقول لك أميرالمؤنين: ما الذي يأكله الناس ويشربونه الى أن يفصل بينهم يوم القيامة؟ فقال له: يحشر الناس على مثل قرص نقي فيها أنهار متفجرة يأكلون ويشربون منها حتى يفرغوا من الحساب، قال: فلما سمع هشام ذلك رأى انه قد ظفر به، فقال: الله أكبر ارجع اليه، فقل له ما أشغلهم عن الأكل والشرب يومئذ؟ فقال محمّد: قل هم في النار أشغل ولم يشغلوا ان قالوا (أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ) فسكت هشام ولم يرجع كلاماً»(6).
وعن أبي حمزة الثمالي عن أبي الربيع قال: «حججت مع أبي جعفر عليه السّلام في السنة التي حج فيها هشام بن عبد الملك وكان معه نافع مولى عمر بن الخطاب، فنظر نافع الى أبي جعفر في ركن البيت وقد اجتمع عليه الخلق، فقال: يا أمير، من هذا الذي قد تكافأ عليه الناس؟ فقال: هذا محمّد بن علي ابن الحسين قال: لآتينّه ولأسألنه عن مسائل لا يجيبني فيها الاّ نبي أو وصي نبي.
قال: فاذهب اليه لعلك تخجله، فجاء نافع حتى اتكأ على الناس، وأشرف على أبي جعفر عليه السّلام فقال: يا محمّد بن علي اني قرأت التوراة والانجيل والزبور والفرقان، وقد عرفت حلالها وحرامها، وقد جئت أسألك عن مسائل لا يجيبني فيها الاّ نبي أو وصي نبي أو ابن نبي، فرفع أبو جعفر عليه السّلام رأسه فقال: سل عما بدا لك، قال: أخبرني كم بين عيسى ومحمّد من سنة؟ قال: أجيبك بقولك أم بقولي؟ قال: أجبني بالقولين! قال أما بقولي فخمسمائة سنة وأما بقولك فستمائة سنة، قال فأخبرني عن قول الله عزّوجل: (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) من الذي سأل محمّد وكان بينه وبين عيسى خمسمائة سنة؟ قال: فتلا أبو جعفر عليه السّلام هذه الآية: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا)(7) كان من الآيات التي أراها محمّداً حيث اسري به إلى بيت المقدس أنه حشر الله الأولين والآخرين، من النبيين والمرسلين، ثم أمر جبرئيل عليه السّلام فأذن شفعاً واقام شفعاً، وقال في أذانه حي على خير العمل ثم تقدم محمّد صلّى الله عليه وآله فصلى بالقوم. فلما انصرف قال الله عزّوجل (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ)(8) فقال رسول الله: على ما تشهدون وما كنتم تعبدون؟ قالوا: نشهد أن لا اله الاّ الله وحده لا شريك له وانك رسول الله، اخذت على ذلك عهودنا ومواثيقنا، فقال: صدقت يا أبا جعفر، قال: فأخبرني عن قول الله عزّوجل (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ)(9) أي أرض تبدل؟ فقال أبو جعفر عليه السّلام خبزة بيضاء يأكلونها حتى يفرغ الله من حساب الخلايق فقال: انهم عن الأكل لمشغولون، فقال أبو جعفر عليه السّلام: أهم حينئذ اشغل ام هم في النار؟ قال نافع: بل هم في النار، قال: فقد قال الله عزّوجل (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ)(10) ما اشغلهم إذا دعوا بالطعام فأطعموا الزقوم ودعوا بالشراب فسقوا من الجحيم، فقال: صدقت يا ابن رسول الله وبقيت مسألة واحدة. قال: وما هي؟ قال: فأخبرني متى كان الله؟ قال: ويلك أخبرني متى لم يكن حتى اخبرك متى كان؟ سبحان من لم يزل ولا يزال، فرداً صمداً لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً. ثم اتى هشام بن عبد الملك فقال: ما صنعت؟ قال: دعني من كلامك، والله هو أعلم الناس حقاً، وهو ابن رسول الله حقاً»(11).
قال الحسين بن عبد الوهاب بعدما أورد قصة أبي بصير ومسح الإمام الباقر عليه السّلام على عينه: «ثم قال عليه السّلام: نحن جنب الله جل وعز، نحن صفوة الله، نحن خيرة الله، نحن أمناء الله، نحن مستودع مواريث الأنبياء، نحن حجج الله، نحن حبل الله المتين، نحن صراط الله المستقيم، قال الله تعالى (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ)(12) نحن رحمة الله على المؤمنين، بنا يفتح الله وبنا يختم الله، من تمسك بنا نجا، ومن تخلف عنا غوى، نحن القادة الغر المحجّلون، ثم قال عليه السّلام: فمن عرفنا وعرف حقنا وأخذ بأمرنا فهو منا والينا»(13).
قال محمّد فريد وجدي: «كان الباقر عالماً نبيلا وسيداً جليلا، وسمّي الباقر لأنه تبقر في العلم أي توسع»(14).
قال الذهبي: «أول من ضرب النقود الرسمية عربية مستقلة في الإسلام وأوجب التعامل بها، وابطل استعمال النقود الرومية والفارسية، عبد الملك ابن مروان خامس خلفاء بني أمية باشارة محمّد بن علي بن الحسين المعروف بمحمّد الباقر»(15).
اقول: ذكر الدميري قصة ضرب النقود مفصلا في الجزء الأول من كتاب (حياة الحيوان) ص62.
(1) قال مجاهد بن رومي: «رأيت الحكم في مسجد خيف وعلماء الناس عيال عليه» وقال جرير عن مغيرة: «كان الحكم إذا قدم المدينة أخلوا له سارية النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يصلي اليها».
وقال عباس الدوري: «كان صاحب عبادة وفضل».
وقال ابن سعد: «كان ثقة ثقة فقيهاً عالماً رفيعاً» (تهذيب التهذيب ج2 ص432 رقم 756).
(2) حلية الأولياء ج3 ص186.
(3) شرح نهج البلاغة ج15 ص227 بتحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم.
(4) سورة يوسف: 24.
(5) حلية الأولياء ج3 ص181، ولقد أجاد السيد المرتضى في بيان معنى الآية ودفع شبهة المعصية عن يوسف عليه السّلام، فقال: ان قيل: فما تأويل قوله تعالى حاكياً عن يوسف عليه السّلام وإمرأة العزيز (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ)؟
الجواب: ان الهم ينقسم الى وجوه، منها: العزم على الفعل كقوله تعالى (إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ) أي أرادوا ذلك وعزموا.
ومنها خطور الشيء بالبال وان لم يقع العزم على، قال الله تعالى: (إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا) وانما أراد تعالى ان الفشل خطر ببالهم ولو كان لهم في هذا المكان عزم لما كان الله تعالى وليهما، لأن ارادة المعصية والعزم عليها معصية، ففرق كما ترى بين الهم والعزم، وظاهر التفرقة يقتضي اختلاف المعنى.
ومنها: أن يستعمل بمعنى المقاربة فيقولون: هم بكذا وكذا، أي كاد يفعله.
ومنها: الشهودة وميل الطباع، لان الانسان قد يقول في ما يشتهيه ويميل طبعه اليه: ليس هذا من همي، وهذا أهم الأشياء إلي، والتجوز باستعمال الهمة مكان الشهوة ظاهر في اللغة.
وقد روي هذا التأويل عن الحسن البصري، قال: أما همها فكان أخبث الهم، وأما همه عليه السلام فما طبع عليه الرجال من شهوة النساء.
فإذا كانت وجوه هذه اللفظة مختلفة متسعة على ما ذكرناه نفينا عن نبي الله ما لا يليق به وهو العزم على القبيح، وأجزنا باقي الوجوه لأن كل واحد منها يليق بحاله.
ومتى حملنا الهم ها هنا على العزم جاز أن نعلقه بغير القبيح ونجعله متناولا لضربها أو دفعها عن نفسه كما يقول القائل: قد كنت همت بفلان أي بأن أوقع به ضرباً أو مكروهاً.
فان قيل: فأي فائدة على هذا التأويل في قوله تعالى (لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ)؟ والدفع لها عن نفسه طاعة لا يصرف البرهان عنها.
قلنا: يجوز أن يكون لما هم بدفعها وضربها أراه الله تعالى برهاناً على أنه ان قدم على ما هم به أهلكه أهلها وقتلوه، أو انها تدعى المراودة على القبيح وتقذفه بأنه دعاها اليه وضربها لامتناعها منه فأخبر الله تعالى أنه صرف بالبرهان عنه السوء والفحشاء اللذين هما القتل والمكروه أو ظن القبيح به أو اعتقاده فيه». انتهى ملخصاً عن (تنزيه الأنبياء) للسيد المرتضى ص47ـ51.
(6) نور الأبصار ص167.
(7) سورة الاسراء: 1.
(8) سورة الزخرف: 45.
(9) سورة إبراهيم: 48.
(10) سورة الاعراف: 50.
(11) الاحتجاج ج2 ص325.
(12) سورة الانعام: 153.
(13) عيون المعجزات للشيخ حسين بن عبد الوهاب من علماء القرن الخامس ص67 ط النجف 1369.
(14) دائرة المعارف ج3 ص563.
(15) النقود العربية ص92.